يا ليتها كانت المكسيك!
ذكر الرئيس الأميركي، جو بايدن، السيسي بالرئيس المكسيكي بدلًا من المصري، ربّما لتقارب الحالة من حيث الحدود والهجرة والسياج الفاصل واللجوء، وبالتأكيد لأنّه شيخٌ خرِف؛ فأيّة إجابةٍ لا ينظر فيها إلى الورقة التي أمامه حرفًا بحرف لن يسعفه فيها عقله المتضائل، خاصةً إذا لم يكن وزير حارجيته، أنتوني بلينكن، مختبئًا خلف ستارٍ قريب يلقنه ما يجب عليه قوله، في حال بائسة تعطي صورةً مثاليةً عن هذا الغرب المصاب بالشيخوخة والزهايمر.
والمكسيكي هو لقبٌ أطلقه المصريون على السيسي منذ زمن (وتلك عادتنا التاريخية مع الحكّام)، وبدأ بشابٍّ بسيط في مقطع فيديو يطالبه بالرفق بالمواطن الغلبان الفقير، في قرارات النظام القاسية، التي أخرجت المصريين عن شعورهم، ولتقارب كلمة السيسي من المكسيكي على سبيل السخرية، انتشرت الكلمة، وشعر المصريون أنّها تمنحهم التورية الكافية للسخرية من حاكمهم الذي يذيقهم الويلات ليل نهار، حتى صار نطق "المكسيكي" على ألسنتهم أكثر رواجًا من اسمه نفسه؛ تارةً للتحرّر من القيود، وتارةً للسخرية.
المهم، حدّثتُ نفسي بين الضحك والذهول، ماذا لو كانت المكسيك فعلًا هي التي على حدود غزّة؟ ما الذي كان سيحدث لو أنّ دولةً أخرى غير مصر التي يحكمها السيسي هي التي في الجوار، ماذا لو كانت دولة لاتينية، يأتي بعض رؤسائها بتزكية العصابات، والبعض بالناخبين الفقراء الحقيقيين، والبعض الذين تختارهم أميركا بانقلابات في الكواليس؟ ماذا لو كانت دولة أفريقية، أو آسيوية، أو دولة أوروبية لها صوتٌ حرّ وحار غالبٌ على الهيمنة والاستعمارية والبرود منقطع النظير؟ ما الفارق الذي كان سيحدث؟
ربّما لو أتيتَ بشبه دولة، أو بأرضٍ تحكمها قبائل بدائية، بجزيرة يسيطر عليها تجار المخدرات، لما استطاعوا حصار غزّة كلّ ذلك الوقت، ولما تجاهلوا استغاثتها مائةً وسبعة وعشرين يوما، ولما تحمّل أحد أن يرى كلّ ذلك القصف دون أن يحرّك ساكنًا، دون أن يقطع السياج، أو يحفر بمخالبه في الأرض، أو يلقي من فوق الجدار المؤونة، أو يدع الماء يجري نحو القطاع وأهله.
لو أتيتَ بشبه دولة، أو بأرضٍ تحكمها قبائل بدائية، بجزيرة يسيطر عليها تجار المخدرات، لما استطاعوا حصار غزّة كلّ ذلك الوقت، ولما تجاهلوا استغاثتها مائةً وسبعة وعشرين يوماً
وليس العتب في ذلك ولا اللوم على مصر نفسها، أرض الخير وخزائن الأرض، وشعب "القاهرة" المقهور، و"جدعان" الأمة المسجونين والمحاصرين كأهل غزّة، وإنّما الجرم على ذلك النظام الذي لا يستحي أن تُباد غزة وهو يشاهدها، وأن يستصرخ الأطفالُ الجنود فيبني سورًا من حجارة يمنعهم من الرؤية، وأن يطلب الصغار شربةَ ماءٍ واحدة فلا يُغاثوا، وليشربوا من البحر الذي بجوارهم، أو ليأكلوا من التراب الذي تحت أقدامهم!
في الثامن عشر من يناير/ كانون الثاني، تقدّمت المكسيك برفقة تشيلي بدعوى إلى المحكمة الجنائية الدولية، للنظر في جرائم محتملة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق غزّة، خطوة قانونية عجز نظام "أم الدنيا"، صاحبة القوانين، وسيدة الإقليم، أن يقوم برُبعها، وعجز أن يتحرك بحكم القانون الإنساني، وإنّما التزم بكلّ ما هو بعيد عن القانون، وعن الإنسان، كاتفاقات العصابات بعيدًا عن الدستور والمحاكم، علمًا أنه لا نفوذ لاتفاقيات ثنائية تخالف القانون الدولي الإنساني، ولكنه عهد الحاكم المتواطئ للقاتل المتغطرس، فيموت الضحية بين مطرقة هذا وسندان ذاك!
ربّما لو كانت المكسيك على حدود غزّة، جغرافيًّا، كانت لتأبى أن تُنعت بالعار وتُوصم بالجبن وتشارك في الإبادة لجارٍ لها، وتاريخيًّا، كانت ستحترم امتداداتهما المشتركة وستحرص على سمعة أشرف وأنبل في كتاب التاريخ، وجيوسياسيًّا، كانت ستحرص على غزّة كامتدادٍ لأمنها القومي، وبُعد استراتيجي لحدودها، كانت لتستغل خلافاتها مع أميركا في تخفيف آثار العدوان الإسرائيلي، وأخلاقيًّا، لم تكن تدع الفرصة لأن تُعاب في كلّ وادٍ، وأن تُلاحق بتهمة الإذعان لاحتلالٍ غاصب، في حصارِ شعبٍ مظلوم، وإنسانيًّا، لم يكن أي إنسان، مهما كانت ملّته أو ثقافته أو اعتقاداته أو أفكاره أو أبعاده أو أعماقه، أو إمكانياته أو تحدّياته، ليترك إنسانًا يذرف دمًا، دون أن يشرب شربة أخيرة! حتى القاتل نفسه، ربّما كان ليلبي له تلك الأمنية! لكن السيسي، المكسيكي (ونحن آسفون للمكسيك) لم يفعل!