يبدو حميداً (2/3)

16 نوفمبر 2020
+ الخط -

فيما بعد وعندما وضعوها على السرير الذي سيصعد بها إلى غرفة العمليات قالت لي أمي بجدية: «وَلَه يا بلال.. عايزة أعترف لك بحاجة»، ظننت أن روح الدعابة ستتملكها وتعترف لي بأنها خالتي وليست أمي، وهي لم تتركني أترجم ظني إلى تعليق ساخر، فقالت لي سريعًا بنفس الجدية: «بصراحة الضغط كان عالي.. عشان وإحنا جايين إمبارح من عندك خبيت في الشنطة حتتين جبنة تركي وكام زتونة.. كنت هاتجنن لو ما كلتهمش.. ماحدش عارف إيه اللي ممكن يحصل»، وأنا قررت قمع رغبتها في التصعيد الدرامي فقلت لها: «بالهنا والشفا.. طب ماكنت جبت لك حتتين بسطرمة بالمرة».

دكتور التخدير الذي شاركني في تلقّي الاعتراف توقف عند تفصيلة لم أتوقعها: «جبنة تركي.. أنتي إسكندرانية يا مدام؟»، وأنا شعرت أنه رجل ذوق جدًّا لأنه لم يقل لها ياحاجّة، ثم أضاف: «شايفة آديني عرفت أول سر من حضرتك قبل التخدير»، بصراحة لم أجد أنه من اللطيف أن يمزح أحد مع أمي حتى لو كان طبيب تخدير في عمر والدي، أو ربما لم أسترح لذلك المزاح لأنه لم يكن في عمري أنا، وأمي بدورها ردت ردًّا مباغتًا: «يا دكتور صعب على واحدة خلفت حداشر عيل إنه يكون عندها أي أسرار». ضحكنا أنا والطبيب والممرضة من أعماق قلوبنا، قبل أن تعاودني الرغبة الملحة في البكاء. أخذ الدكتور البارع الذي يفيض بالإنسانية يشرح لها أهمية أن تحصل على مسكنات بعد إفاقتها من العملية لأن بعض المرضى يقلقون من الحصول على مسكنات ويتخلون عن حقهم في عدم الشعور بالألم، كان يتحدث معها ببراعة كأن العملية تمت ونجحت خلاص، بدا خبيرًا جدًّا في التعامل مع الذين يبدون واثقين وهم ليسوا كذلك، والأهم أنه كان لطيفًا جدًّا لدرجة أنك تحب أن يتم تخديرك على يديه، لا أدري إذا كان يقول تلك الجمل اللطيفة التي يقولها لكل المرضى أم أنه يختار منها حسب طبيعة المريض، لكن لفت انتباهي أن شعره الأبيض وصلعته المهيبة يمنحان كل ما يقوله مصداقية عالية لعلها عجّلت بنوم أمي قبل أن أسألها: هل تبقّى شيء من الزيتون والجبنة التركي؟ 

ليتها كانت أطول؛ تلك الثواني التي قضيتها متأملًا في وجه أمي الجميل قبل أن يصحبوها إلى غرفة العمليات، لو كانت أطول لربما حققت حلمي الطفولي القديم في عد الحسنات التي تُزين وجهها القمحيّ المشرق، وهو الحلم الذي لم تتعامل معه أبدًا بتقدير لائق، بل كانت تستخف به بعبارات من نوعية «ليه يعني؟ هتعمل لهم جرد؟! إذا كان أبوك ماعملهاش.. أصلك ما شفتش أنت الحسنات دي زمان.. كانوا حَبّ شباب»، قبل أن تختم بالعبارة التي تُشبع بها رغبتها الدائمة في تذكيري بالآخرة: «وبعدين مش دي الحسنات اللي هتنفعنا يوم القيامة يا فالح».

نحن أناس لا نخاف الموت، لكننا نعشق الحياة؛ ولذلك سنضحك كلما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. سنضحك لأننا لا نحب المشي، ليس لنا ثقل عليه، والضحك يحرك عضلات الجسم كلها؛ ولذلك سنضحك بدلًا من أن نمشي. سنضحك لأن الضحك هو العلاج الوحيد الذي لا يزال ببلاش. وأخيرًا سنضحك لأننا لحُسن الحظ مرة من نِفسنا ننزل في مستشفى «آدمية» يمكن فيها أن تضحك إذا أردت، أو بمعنى أصح إذا استطعت.

نحن أناس لا نخاف الموت، لكننا نعشق الحياة؛ ولذلك سنضحك كلما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. سنضحك لأننا لا نحب المشي، ليس لنا ثقل عليه، والضحك يحرك عضلات الجسم كلها؛ ولذلك سنضحك بدلًا من أن نمشي

والضحك بدأ بعد ساعتين من إفاقة أمي الكاملة من تأثير البنج، لم أُرد أن أخبرها بما قاله لي الطبيب تاركًا تلك المهمة العسيرة لحنكته، هنأتُها على نجاح إزالة الورم، فسألتني: «سجدت لله شكر لأنه طلع حميد؟»، قلت لها: «الحقيقة لأ.. لأني نسيت السجادة في البيت»، وعندما قالت لي: «ده عذر أقبح من ذنب». ثم راحت في النوم، اطمأننت على تماثلها للشفاء، وفرشت ملاية على الأرض وسجدت لله شكرًا. بعد ساعات وعندما أصبح متاحًا لها أن تأكل «حاجة خفيفة»، نظرت باستعلاء إلى الصينية التي كان بها «علبتين» زبادي وطبق جيلي وموزة، طلبتْ مني أن أزيح طبق الجيلي بعيدًا، وعندما استغربت قالت لي: «في حد ياكل جيلي في مستشفى يابني»، ثم طلبت طبقًا فارغًا وعندما سألتها: «ليه»، لم تُعَبِّرني، أحضرت لها الطبق فأفرغت فيه (علبتين) الزبادي ثم قامت بتقطيع الموزة وهرسها وقلبتها مع الزبادي، وطلبت قالبَيْ سكر وأضافتهما إلى ما سبق واستمرت في التقليب، ثم نظرت إلى الناتج الإجمالي بسعادة، وبدأت تأكل بتلذذ بعد أن قالت: «أهوه كده الواحد يحس إنه مابياكلش أكل عيانين.. ماتجيب موزة عشان أعمل لك طبق».

بعد أن شربتْ الشاي وحمدتْ الله وأثنتْ عليه، دخلنا في الجد، وبدأت تسألني عن العملية أسئلة يحتاج الكذب في الإجابة عنها إلى تركيز شديد كشف لي أنني لست ماهرًا في الكذب كما كنت أظن، حاولت الهروب بأن قلت لها: «على فكرة الدكتور مانعك من الكلام عن العملية إلا لما هو ييجي»، فقالت لي «يا سلام! على أساس إني ماعملتش عمليات قبل كده.. هو أنت مخبي عليا حاجة يا وَلَه»، وأنا ضربت جبهتي بكفي بقوة قائلًا: «ياه كنت هانسى العصر»، وعندما شعرت أن ذلك بالضرورة سيُفهم خطأً قلت لها: «هاخبي عليكي إيه يا أمي.. ماهي رجلك زي الفل أهيه.. حد يصدق إن دي كان فيها ورم طوله عشرة سنتي وعرضه تمانية سنتي.. ده الدكتور مش مصدق إن العملية نجحت أوي كده»، باغتتني بالسؤال: «أنت شفت الورم بعد ماطلعوه؟»، انقبض قلبي وقلت لها: «أعوذ بالله.. الدكتور كان عايز يوريهوني بس أنا مارضيتش.. هي دي حاجة تتشاف»، ازدان وجهها بابتسامة في غير محلها وقالت لي: «أنت عارف أنا حلمت بإيه من شوية.. خير اللهم اجعله خير إن الورم ده زي مايكون تلات حتت سمك متقطعين ومحطوطين في صينية.. هو أنا مش ممكن أشوفه؟ ماتعرفش هم ودّوه فين؟»، حاولت أن أصنع إفيهًا للهروب من تركيب الموقف وعبثيته وقلت لها: «الدكتور خده البيت عشان يعمله صيادية»، ومع أنها استسخفت الإفيه السخيف فعلًا، إلا أنها قالت لي ساخرة: «ماكانش هيعرف يطبخه زي الصيادية اللي بتعملها أمك.. روح الحق العصر يا خفيف».

بعد الصلاة أصرت على أن أتصل بالطبيب الجليل الدكتور طارق الغزالي حرب لكي أطمئنه أننا «شلنا الورم الحميد»، كان الدكتور طارق جزاه الله عني خير الجزاء هو الذي اكتشف الورم بالصدفة وأدرك خطورته، كانت أمي قد ذهبت إليه بصحبة زوج أختي الذي كان يعاني من آلام في رقبته، لا أدري ما الذي جعلني أستحلفها بالله أن تجعل الدكتور طارق يفحص قدمها اليسرى التي ظلت لأشهر تقول لي في التليفون إنها «تزك» عليها، وكلما سألتها: «والدكتور قال إيه؟» أخذت تحكي لي كل مرة قصة عن عشب جديد أو وصفة خطيرة أو طريقة مدهشة في التدليك، ولولا أن سخَّر الله لنا الدكتور طارق لكان هذا الورم الخبيث قد فتك بقدمها. كلما سألتني: «ماكلمتوش ليه يابني؟! عايزه أشكره» أخذت أراوغها، وعندما جاء موعد فحص مساعد الطبيب لقدمها أخذت تسأله ببراءة تمزق القلب: «بس في حاجة غريبة يا دكتور.. أنا مش حاسة ببطن الرجل خالص.. ومش عارفة أحرك القدم.. هو ده من تأثير البنج ولا أنا فاهمة غلط؟»، نظر الرجل إليّ مستغربًا سؤالها، وأنا نظرت في عينيه نظرة حاولت أن أضع فيها كل ما أملكه من استعطاف وقلت لها: «متهيأ لي الدكتور وليد هو اللي هيقدر يجاوبك عن سؤال زي ده.. مش كده يا دكتور؟»، والشابّ الجميل هز رأسه موافقًا وخرج بعد أن قال لي هامسًا: «بس كده مش صح.. ماتنساش إن الراجل اللي هيجيب لها دعامة القدم زمانه على وصول».

...

نختم غدا بإذن الله..

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.