عندما قدت انقلاباً عسكرياً
كانت واحدة من ليالي شهر إبريل/نيسان من عام 2012، الساعة الثالثة بعد منتصف الليل عندما رنّ الهاتف، كان أحد الناشطين، لم أصدق أن المجنون يتصل بي مباشرة وأنا في قطعتي العسكرية، عندما فتحت الخط لم يمهلني لنطق أية كلمة، قال: نائم! معقول.. افتح السكايب، وأغلق!
فتحت السكايب، وإذ به يرسل لي مجموعة من الأخبار الصاعقة:
- انفجار في مقر خلية الأزمة يسفر عن مقتل معظم أركان النظام.
- عربات عسكرية حول مبنى الإذاعة والتلفزيون.
- الأسد يهرب بطائرة عسكرية إلى طهران.
- استنفار أمني في محيط مستشفى الشامي بدمشق.
- انشقاق فاروق الشرع!
قفزت من سريري العسكري وأنا أصرخ: هذا اليوم الذي كنا نريده. لقد حانت ساعة الصفر، ولا بد من التحرك بسرعة، وإلا استغل أعداء الوطن والثورة الفوضى في صفوفنا وأعادوا تنظيم أنفسهم.
على عجل لبست ثيابي العسكرية الكاملة، سرّحت شعري محاولاً تخفيف كمية الرمال العالقة فيه، ووضعت بعض العطر بهذه المناسبة السعيدة، وخرجت!
صمت لا يقطعه إلا عواء عشرات الكلاب الشاردة التي تحيط بنا من كل مكان.
انطلقت إلى غرفة أول ضابط كان يحاضر بنا سراً بشكل يومي عن الثورة وإجرام النظام. طرقت بابه بلطف ودخلت.
كان نائماً، هززته بهدوء: سيدي سيدي هناك أخبار خطيرة من دمشق، يجب أن نتحرك ونتغدا بأتباع النظام في الكتيبة قبل أن يتعشوا بنا.
قال لي: ما هي الأخبار؟ رويت له ما عندي بلهفة وانفعال، ولكنه لم يأبه لكل ذلك، تثاءب وقال لي: أنا تعبان، الصباح رباح!
رباح؟ ما هذا القائد! تركته وانطلقت إلى الضابط الثاني، كان أقل رتبة، ولكنه أعنف بانتمائه الثوري ورغبته في حسم الأمور عسكرياً، لابد أن هذا الضابط لن يجبن، وسيتحرك فوراً.
وفعلت معه كما فعلت مع الأول، رويت ما لدي من أخبار، فقال لي: بشّرك الله بالخير، أنا يا محمد مريض بطني يؤلمني، أتمنى منك أن تعذرني!
خرجت من غرفته مصدوماً، مثل هؤلاء الضباط المخصيين لا يمكن الاعتماد عليهم مطلقاً.
ذهبت إلى غرف بعض العناصر ممن كانوا أخلص مريدي الثورة.
أيقظتهم، صعدنا إلى جبل قريب، وهناك وضعنا الخطة، البيان رقم واحد!
سننفذ انقلاباً عسكرياً في الكتيبة، نسيطر عليها، ونعلن دعمنا للثورة ولمن يتحرك في دمشق ضد النظام.
اقترح أحد العساكر أن نلقي القبض على جميع الضباط، ونرميهم في مستودع فارغ، بعد تقييدهم وتجريدهم من ملابسهم. فيما أصرّ آخر على أن يكون من بين المقيدين الضباط الذين كانوا يحسبون أنفسهم علينا.
في النهاية قررتُ أنا، قائد الانقلاب، أن نؤجّل عمليات الاعتقال حتى الصباح؛ ففي جميع الأحوال نحن نسيطر على الكتيبة، لأن الجميع نيام!
وزعتُ العناصر أمام غرف الضباط ليقوموا باعتقالهم في حال خرج أحد منهم، وأرسلتُ البقية إلى الطريق الصحراوية التي تربط دمشق بدير الزور، لإلقاء القبض على أي هارب من النظام قد تسول له نفسه الهرب إلى العراق مثلاً!
وعلى رأس تلة قريبة، جلست أراقب كل شيء. لم يرق لي هذا الصمت. فتحت الإنترنت، دخلت مواقع وكالات الأنباء العالمية، ولكنني لم أجد شيئاً فيها، لا انفجار ولا عربات عسكرية ولا مستشفى الشامي ولا الشرع! مواقع قنوات الأخبار الجزيرة والعربية وBBC وCNN هي الأخرى لم يكن فيها شيء!
أخذ الفار يلعب في عبّي! هل يعقل أن يمر حدث كهذا دون أن يسمع به أحد من هؤلاء!
كانت الساعة قد شارفت على الخامسة، مرّت ساعتان على انقلابنا العسكري، أعدت الاتصال بالناشط، رن الهاتف مطولاً قبل أن يجيبني وهو يغالب نومه.
قلت له: ما الأخبار؟
قال: أية أخبار؟
قلت: أخبار الانفجار والانقلاب والطائرة.
قال: أوهووو، منفي، كانت إشاعة!
منفي! إشاعة! وهذا الانقلاب الذي قمت به!
أغلقت الهاتف ورحت أهرول لأسفل التل، جمعت العساكر مجدداً، وأعلنت فيهم البيان رقم 2: انتهى الانقلاب، وعلى الجميع العودة إلى فراشه فوراً.
بعد انتهاء الانقلاب وانصراف الجميع بدقائق قليلة، خرج قائد الكتيبة يعرك عينيه، نظر إليّ وأنا الواقف وحيداً وسط الساحة، وقال: غير معقول، محمد بلباسه الميداني الكامل، هل قامت القيامة؟
قلت: ليس بعد، ولكنني أحببت أن أتفقد الحرس، وأن أسهر على أمن الوطن!
كانت هذه تجربتي الأولى والأخطر مع حالات الجنون الجماعي التي تصيب الناشطين، وقد عرفت جيداً أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا محل ثقة، وأن من يثق بهم قد ينتهي مقتولاً أو في غياهب السجن على الأقل.
لاحقاً، باتت حالات الجنون الجماعي التي تصيبهم تنتهي دائماً "باستنفار أمني حول مستشفى الشامي بدمشق" و "بانشقاق فاروق الشرع"، لذلك بات التعامل معها أسهل من ذي قبل.
بعد سنوات من الثورة، بات بعض النشطاء أكثر جنوناً؛ فمنذ أيام أصابتهم لوثة أخرى عندما قتل السفير الروسي. فخلال ساعات ربطوا بين مقتل مسؤول في الخارجية الروسية ومقتل السفير الروسي في تركيا وسقوط طائرة روسية عسكرية، فأعلنوا بكل ثقة أن روسيا انتهت! وبوتين يستعد هو الآخر للهروب إلى طهران وسط أنباء عن انشقاق فاروقوف شرعوف الروسي، واستنفار أمني حول مستشفى الشاميوف في موسكو!