حق الصمت السوري
"كن مستعداً دائماً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد والدفاع عنه"، هذا شعار طلائع البعث التي لم تحمل البندقية لتواجه إسرائيل اليوم، بل حملتها لسحق الثورة السورية، منذ انطلاقتها، حتى خطفها وخلط أوراقها وعسكرتها. انفجر الرفض الشعبي لوجود سلطة الأسد، فأنزل حواجزه العسكرية بالمئات إلى شوارع المدن السورية، لضعف ثقته بالسكان، هم ذاتهم الذين كانوا يميلون نحوه بقدر ما يحتفظون بحق الرد على طغيانه وعصابته.
الملايين التي انتسبت إجبارياً لـلحزب الحاكم، كانت تعتقد أن الصواب هو سماع كلمة "أبطال تشرين التحرير" و"تشرين التصحيح"! لم يكن في البال أن الاشتراكية التي سوّقها النظام على أنها "الرخص"، كانت توفّر النقود والسلاح لمواجهة وتصفية المعارضة على الأرض، حتى قبل "عسكرتها" التي ألصقها النظام بمشروع "العدو"، وهذا ما أكده أحد أبواق النظام ويدعى، طالب إبراهيم، حين قال لقناة "الدنيا": "هؤلاء قتلهم فرض وواجب، وقتالهم هو أولى من قتال العدو الإسرائيلي"، والمقصود بهؤلاء هنا"المتظاهرون ضد النظام".
إبراهيم، طبيب الأسنان الذي أصبح محط سخرية على "يوتيوب" جراء تصريحاته الخيالية بانتصار النظام، قريباً، ثم "فرض حظر جوي على شرق المتوسط" حسب ما صرح لقناة (OTV). هذا المهرج ومعه مئات الآلاف من أهل دمشق، ربما شهدوا قصف إسرائيل لمطار المزة العسكري، ليلة الثاني عشر من الشهر الماضي، كانون الثاني/ يناير، ولكنهم لم يتذكروا إطلالة الرئيس الروسي، فلاديمر بوتين، برفقة بنيامين نتنياهو لتطمينه على "طبيعة التحالف مع الأسد" وضمان الأجواء من أي رد عكسي على الهجوم، بينما "تُحف" الإس 300 يستخدمها إعلام النظام ليتباهى أمام الشعب، مرحّباً باحتلال مؤجل ووصاية روسية على سورية.
أدار النظام وإعلامه وبعثيوه وحلفاؤه، وجوههم عن الحقيقية التي تجعل مواطناً بسيطاً مثلي يتساءل، هل هذا تحالف أم حفلة جماع سياسي على جسد سورية؟ هل يستخدم الحلفاء ورق "المنطلقات النظرية للبعث" للتنظيف بعد انتهاء الحفلة؟ أم ورق بيانات جيش النظام؟ أين العدو؟ ومن هو هذا الشعب الذي يدعي الأسد أنه انتخبه؟ ولمن تباع الأرض والذاكرة؟ ومن أحرق "تاريخ" بلادي قبل البعث؟
كل هذا العطب الأخلاقي الذي كانت ماكينة الصمت تعمل عليه وترتق أفواه الأطفال قبل الكبار، وتكتم أصوات العصافير، قبل أصوات الناس المقهورة. هو حق الصمت السوري الذي نمارسه خفيةً على أرض الحرب. وهذا التشفي بقتل البلاد، هو الصورة التي يسوقها الإعلام الرسمي للنظام دون أن يخطر في باله أين "الحلفاء..؟".
ربما هي مطالبة باطنة لدى الناس، بأن يحدث خراب في كل شيء، سواء كان من أطراف الصراع أو من الخارج، لأن العدالة لن تستوي في بلد غرق بالمليشيات الطائفية والجيوش الأجنبية التي جاءت من أجل "التحرير" و "الاستثمار" السياسي والعسكري لموقع هذا البلد وثرواته.
يكفي أن تبحث عن اسم منطقة "المزة" في "تويتر" مثلاً، لتجد عشرات الصور ومقاطع الفيديو المختلفة، المنشورة مباشرة من مواقع مطلة على ليلة سقوط صواريخ إسرائيل في مطار المزة العسكري، وتقرأ كيف يتناول السوريون بعضهم، بينما حق الرد و "تداعيات الضربة" حسب تهديد بيان جيش النظام، هي معمعة مدروسة وقائمة وفق النهج البعثي، ففي المدرسة عليك أن تؤمن بأقوال "القائد" حتى لو كانت غير مفهومة! وفي المقهى، يقطع البث التلفزيوني حين يطل "الرئيس" حتى لو كان يؤدي الصلاة، وفي المنازل نشتم وننتقد ويدفن وراء أسرارنا صرخات رفض لا يمكن قولها علناً حول كل هذه الغطرسة والاستبداد، مع أننا كنا نعرف أنه طاغية وأننا بحاجة "للاستقرار" وضريبة الأمان هي اليد الحديدية على كل شيء.
لم يتغير المشهد كثيراً، انتقل الدور إلى "القصير"، فروسيا تأمر وتتحالف مع إسرائيل، تنسق مع تركيا لمفاوضات المعارضة، وتجلب إيران إلى المشهد أو تطردها منه ساعة تريد. والنظام السوري أصبح حسب منهج البعث مطيعاً للرفيق الأكبر، فعلياً للقائد، رغم أن تصرفاته غير مفهومة. هو ذات الشبح الدموي الذي كنّا نخاف تناوله ومحاولة انتقاده أو قتله، ولكننا نحتاجه، ها هي روسيا تلعب الدور بشكل دقيق ويبقى صوت النظام أمامها منخفضاً أو صامتاً، معاتباً، شاتماً ربما، ولكنه بحاجة لها حتى لو قتلت بعض أهله واحتفظ بحق الرد، ثم أمرت بمعروف الضمانات للعدو الإسرائيلي، ثم احتفظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين.