30 ديسمبر 2021
هل يمكن أن تتخيل مدينة بدون موسيقى؟
من كان يصدق أن مسرحية غنائية مأخوذة عن فيلم صغير مستقل لم يحقق نجاحاً تجارياً، ولم تسلط عليه الأضواء إلا بعد حصوله على أوسكار أحسن أغنية، ستصل إلى واحد من أهم مسارح برودواي، وتستمر عليه لأكثر من ثلاث سنوات محققة نجاحاً ساحقاً.
أتحدث عن مسرحية (ذات مرة ONCE) والتي أخذت عن فيلم سينمائي بنفس الاسم عرض عام 2006، والتي سيزداد تقديرك لنجاحها، حين تشاهد أنها لا تعتمد على تقنيات مبهرة، كالتي تحفل بها الكثير من مسرحيات برودواي الموسيقية، التي تقوم بإعادة أفلام شهيرة، مثل عرض (علاء الدين) أو عرض (شيكاغو) أو عرض (الأسد الملك)، ولو حتى على مستوى الصوت والإضاءة، بل على العكس تماماً، اختار مخرج المسرحية أن يقدم كل أحداثها داخل بار بمدينة دبلن الأيرلندية، باستثناء مشهد وحيد يصعد فيه بطلا المسرحية على سلم فوق البار، ليطلا على المدينة من أعلى، فيظلم المسرح وتضيئ أرضيته بلمبات صغيرة، ليوحي أن هذا هو منظر بيوت المدينة كما يبدو ليلا، كما اختار المخرج أن لا يتم تقديم المسرحية بصحبة أوركسترا صاخبة، كما هو الحال في المسرحيات الموسيقية، بل أن يتم عزف موسيقى العرض من خلال الممثلين أنفسهم، الذين يظلون طيلة الوقت على خشبة المسرح، والذين يقومون أيضا بدور عمال الديكور في ادخال قطع الديكور البسيطة إلى خشبة المسرح، متيحاً للجمهور أن يصعد إلى خشبة المسرح قبل العرض وفي الاستراحة أيضا، للتأكيد على بساطة وحميمية أجواء العرض.
ببساطة، يكمن النجاح الفائق لهذه المسرحية، في المواهب الفردية الإستثنائية التي يمتلكها كل من ظهروا على خشبة المسرح، والذين يجيدون جميعاً الغناء والرقص والتمثيل بنفس التميز، بالإضافة إلى قدرتهم على عزف أكثر من آلة بشكل مبهر، ليكون توظيف هذه المواهب التي تتنوع أعمارها بين السابعة وحتى السبعين، عنصر الجذب الأساسي الذي تقدمه المسرحية لجمهورها، الذي يشاهد قصة بسيطة شاهد مثلها كثيراً، ويستمع إلى أغنيات إن لم يكن يحفظها بسبب انتشارها الكبير عقب فوز الفيلم بأوسكار أحسن أغنية فهو يعرفها على الأقل، ومع ذلك يجد نفسه منبهرا بأداء جميع الممثلين أيا كان صغر حجم دورهم.
كنت حسن الحظ بأن أتيحت لي فرصة حضور عرض المسرحية، عقب حصولها في 2012 على جائزة توني الشهيرة لأفضل عرض مسرحي غنائي، بالإضافة إلى سبعة جوائز توني من بينها أفضل ممثل وأفضل نص مسرحي وعدد آخر من الجوائز المسرحية الكبرى، ثم حضرت عرضها الختامي يوم الأحد 4 يناير 2015، ليبهرني كيف ظل جميع ممثليها محتفظين بتألقهم في المرتين، وكيف ظلوا حتى آخر عرض بارعين في إظهار شغفهم بالعزف والغناء والرقص طيلة ثلاث ساعات، ولذلك لم يكن غريباً أن يعاملهم الجمهور معاملة كبار النجوم الذين يقدمون أحيانا من هوليود ضيوفاً على برودواي، حيث صفق جمهور الليلة الأخيرة لهم لأكثر من ربع ساعة تقديراً لأدائهم المتميز، وانتظرهم المئات خارج المسرح بشغف، وتعالت صيحات التهليل والإعجاب حين يطلون على الجمهور من شباك المسرح، وعبر الكثيرون لكاميرات التلفزيون التي جاءت لتغطية الحدث، عن حزنهم الشديد لانتهاء عروض المسرحية التي شاهدها بعضهم أكثر من مرة.
ثمة مفتاح مهم آخر لنجاح المسرحية، بشكل يفوق الفيلم الذي اقتُبست عنه بكثير، هو براعة كاتب النص المسرحي إيندا وولش، الذي حافظ على تتابع الفيلم السينمائي الذي كتبه مواطنه جون كارني، لكنه قدم الأحداث بروح أكثر سخرية، تجلت في حوار يمكن وصفه بالسهل الممتنع، فجعل المسرحية تبدو أكثر حيوية وأخف ظلاً من الفيلم السينمائي، برغم أنها لا تقدم أحداثا مختلفة عنه، ومع أن المسرحية احتفظت بأغلب أغاني الفيلم التي كتبها ولحنها بطلا الفيلم الأيرلندي جلين هانسارد والتشيكية ماركيتا إيرجلوفا، إلا أن أداءها الحي على خشبة المسرح بأصوات ساحرة منحها بريقاً خاصاً، وجعل تجربة حضور المسرحية شديدة الإمتاع والجمال. (أفتح قوسا لأقول أن الفيلم برغم أنه لم يحقق أرباحا أكثر من تسعة ملايين دولار، إلا أنه اعتبر مشروعا مربحا جدا لكل من شارك في إنتاجه، لأنه لم يتكلف أكثر من 180 ألف جنيه استرليني، ولذلك فقد فتح نجاحه أبواب الحظ لكاتبه ومخرجه جون كارني الذي لم يكتف بذلك النجاح، بل قدم أكثر من فيلم كان آخرها وأكثرها تطورا وجمالا ونجاحا، فيلم "ابدأ ثانية" Begin Again الذي لعب بطولته مارك رافالو وكيرا نايتلي).
تحكي مسرحية (ذات مرة) عن علاقة حب تتطور بين فنان أيرلندي موهوب سيئ الحظ ـ تقدمه المسرحية باسم (GUY أو شاب) ـ يعمل في محل والده المتخصص في إصلاح المكانس الكهربائية، وبين مهاجرة تشيكية تستمع إليه بالصدفة وهو يغني في بار أغنية حزينة، كان مقررا أن تكون أغنيته الأخيرة، حيث قرر بعدها أن يرمي جيتاره، ويتوقف عن الغناء الذي لم يجلب له تقدير أحد، بما فيه حبيبته التي كان يكتب أغانيه من أجلها، والتي تركته وهاجرت إلى نيويورك، لكن الفتاة التشيكية ـ والتي تقدمها المسرحية باسم (Girl فتاة) ـ تلومه على قراره بترك الغناء، وحين تعرف أنه يقوم بإصلاح المكانس الكهربائية، تقول له أن هذه معجزة رتبها القدر، لأن لديها مكنسة كهربائية معطلة، وتطلب منه أن يقوم بإصلاحها، مقابل أن تعزف له، فقد كانت تعزف الموسيقى في بلادها قبل أن تهاجر، وفي حين يذهب الإثنان ـ في أحداث الفيلم ـ إلى متجر للأدوات الموسيقية ليشتركا في الغناء هناك، تقوم المسرحية بتقديم شخصية طريفة جدا لصاحب بار ضخم الجثة غريب الأطوار لديه آلات موسيقية ويشعر بانجذاب إلى الفتاة ويعتبر الشاب الذي ظهر فجأة غريما يجب طرده، وبعد مشهد طريف يجمع الثلاثة، تستعين الفتاة بالبيانو الذي يمتلكه صاحب البار، لتعزف للشاب الذي يكتشف موهبتها الموسيقية، فيخرج أغنية كان قد كتبها لحبيبته، ويبدأ الإثنان معاً في غناء أغنية (السقوط ببطء) والتي اشتهرت بكلمات مطلعها الجميلة "أنا لا أعرفك ولكني أريدك". (يمكن الاستماع إلى نسختها السينمائية التي حصلت على أوسكار أحسن أغنية عبر هذا الرابط http://bit.ly/1438zzN).
تتطور العلاقة بين الإثنين، بعد إصلاح الشاب للمكنسة الكهربائية المعطلة، حين تصر الفتاة على أن يقوم الشاب بتسجيل أغانيه على "سي دي"، ليذهب الإثنان إلى مسئول عن منح القروض الصغيرة في أحد البنوك بوساطة من والدتها التي تعرفه، وفي البنك يسمعه الشاب احدى أغانيه، فيتأثر بها مسئول البنك بشدة، قبل أن يكتشف الإثنان أنه يحب الغناء والعزف أيضا، ويخرج جيتارا يغني عليه بصوت ردئ جدا، فيطلبان منه الانضمام كعازف وليس كمغني، إلى فريق العازفين الذي سيقوم بتسجيل ألبوم غنائي سيحمله الشاب معه إلى نيويورك لعرضه على شركات الإنتاج، ولكي يرى صديقته المهاجرة هناك أيضا، وفي أجواء مبهجة، تقدم المسرحية كيف يتواصل تسجيل أغنيات الألبوم، بشكل يظهر شخصيات المشاركين في العزف ومواهبهم المختلفة، ويتخلل ذلك عرض للخلافات التي تحدث بين صاحب البار وموظف البنك، وقيام الشاب بالتعرف على أسرة الفتاة، ليكتشف أنها متزوجة ولديها طفل، لكن زوجها يعيش بعيدا عنها، ونرى مع تطور قصة الحب بين الإثنين، كيف تقف قصة حبه السابقة وزيجتها عائقا أمام تطور مشاعرهما، ويعبر الإثنان عن تطور مشاعرهما من خلال أغنيات رائعة.
أجمل ما في عرض (ذات مرة) والطريقة الذكية التي تم اخراجه بها، أنك لا تشعر خلاله بأنك تشاهد مسرحية مصنوعة سلفاً، واستغرقت وقتا طويلا في تأليفها وتلحينها واخراجها، بل تشعر أنك تشاهد عرضاً حياً، يقدمه فنانون تلقائيون من الذين تراهم كثيرا في شوارع المدن الكبرى في العالم، وهو ما تعبر عنه عبارة رائعة وردت على لسان بطل المسرحية يقول فيها "لا يمكن أن تكون لديك مدينة بدون موسيقى"، وهي عبارة مفتاحية ودالة، ستجعلك تفكر حزينا أسِفا في حالة الموات الموسيقي التي تعانيها شوارع مدننا منذ سنين طويلة، وحتى حين جاء بعض التغيير عقب ثورة يناير، وظهرت مبادرة (الفن ميدان) التي أتاحت الفرصة لكثير من الفنانين الشباب والفرق الموسيقية، أن يغنوا في الشارع وسط الناس، تكفّل الغباء الأمني بمنع المبادرة في عام 2014، في مواصلة منه لسياسة خنق المجال العام وتأميم أي براح ينشأ في البلاد، وإن كانت شوارعنا للأسف تعاني قبل ذلك ومنذ سنوات كثيرة من خلوها من الموسيقى، فباستثناء بعض الفنانين الذين يعزفون العود على مقاهي الحسين ويرددون بعض الأغاني المحفوظة للجميع، وتجربة أخرى لم تدم طويلاً قام فيها بعض الشباب بعزف موسيقى شعبية في بعض شوارع القاهرة، فإنك حين تجول شوارع مدننا المصرية التي يفترض أن أهلها يحبون الموسيقى والغناء، لن تجد حضوراً لافتاً لفنانين يعزفون ويغنون للناس مقابل الحصول على مقابل مادي لما يقدمونه، لأن ذلك سيعرضهم للسخرية والإشفاق، أكثر مما سيجلب لهم التقدير والتشجيع.
أعلم أن الحديث في هذا الأمر ذو شجون، ولذلك سأستدعي فقط في ختام حديثي من بين تلك الشجون، شجن التساؤل في ظل كل هذا الحديث الذي لا ينقطع في وسائل الإعلام الحكومية عن دعم الدولة المصرية للثقافة والفنون، عن إمكانية أن تجد ثلاثين أو قل حتى عشرين فنانا وفنانة، قادرين على الجمع بكفاءة بين مواهب الغناء والرقص والتمثيل وعزف أكثر من آلة، لكي يقدموا عرضاً فنياً مبهجاً كذلك الذي تقدمه مسرحية (ذات مرة)، والذي ستدرك حين تتأمله أنه لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة وجود مؤسسات لتعليم الفنون ورعاية المواهب، ووجود مناخ فني صحي يفتح للموهوبين أبواب النجاح، إذا اجتهدوا في تطوير مواهبهم، لتتم مساعدتهم على إيصال فنهم للناس، ولو حتى بغرض الربح الذي يعم على الجميع، ولولا ذلك لما كان ممكنا لفيلم مستقل قليل التكلفة مثل فيلم (ذات مرة)، أن يتحول إلى ظاهرة سينمائية ومسرحية تحقق كل هذا النجاح المادي والتأثير الفني، في حين يتركز الإنفاق الحكومي الفني في بلادنا المنكوبة، على أوبريتات غنائية عقيمة تهلل لمن يصل إلى السلطة، وتترجم خطبه إلى أغانٍ بلهاء تصبح مع الوقت مثارا للسخرية والتحفيل.
أليس مناسباً هنا أن أختم كلامي بعبارة "جتنا نيلة في حظنا الهباب".
أتحدث عن مسرحية (ذات مرة ONCE) والتي أخذت عن فيلم سينمائي بنفس الاسم عرض عام 2006، والتي سيزداد تقديرك لنجاحها، حين تشاهد أنها لا تعتمد على تقنيات مبهرة، كالتي تحفل بها الكثير من مسرحيات برودواي الموسيقية، التي تقوم بإعادة أفلام شهيرة، مثل عرض (علاء الدين) أو عرض (شيكاغو) أو عرض (الأسد الملك)، ولو حتى على مستوى الصوت والإضاءة، بل على العكس تماماً، اختار مخرج المسرحية أن يقدم كل أحداثها داخل بار بمدينة دبلن الأيرلندية، باستثناء مشهد وحيد يصعد فيه بطلا المسرحية على سلم فوق البار، ليطلا على المدينة من أعلى، فيظلم المسرح وتضيئ أرضيته بلمبات صغيرة، ليوحي أن هذا هو منظر بيوت المدينة كما يبدو ليلا، كما اختار المخرج أن لا يتم تقديم المسرحية بصحبة أوركسترا صاخبة، كما هو الحال في المسرحيات الموسيقية، بل أن يتم عزف موسيقى العرض من خلال الممثلين أنفسهم، الذين يظلون طيلة الوقت على خشبة المسرح، والذين يقومون أيضا بدور عمال الديكور في ادخال قطع الديكور البسيطة إلى خشبة المسرح، متيحاً للجمهور أن يصعد إلى خشبة المسرح قبل العرض وفي الاستراحة أيضا، للتأكيد على بساطة وحميمية أجواء العرض.
ببساطة، يكمن النجاح الفائق لهذه المسرحية، في المواهب الفردية الإستثنائية التي يمتلكها كل من ظهروا على خشبة المسرح، والذين يجيدون جميعاً الغناء والرقص والتمثيل بنفس التميز، بالإضافة إلى قدرتهم على عزف أكثر من آلة بشكل مبهر، ليكون توظيف هذه المواهب التي تتنوع أعمارها بين السابعة وحتى السبعين، عنصر الجذب الأساسي الذي تقدمه المسرحية لجمهورها، الذي يشاهد قصة بسيطة شاهد مثلها كثيراً، ويستمع إلى أغنيات إن لم يكن يحفظها بسبب انتشارها الكبير عقب فوز الفيلم بأوسكار أحسن أغنية فهو يعرفها على الأقل، ومع ذلك يجد نفسه منبهرا بأداء جميع الممثلين أيا كان صغر حجم دورهم.
كنت حسن الحظ بأن أتيحت لي فرصة حضور عرض المسرحية، عقب حصولها في 2012 على جائزة توني الشهيرة لأفضل عرض مسرحي غنائي، بالإضافة إلى سبعة جوائز توني من بينها أفضل ممثل وأفضل نص مسرحي وعدد آخر من الجوائز المسرحية الكبرى، ثم حضرت عرضها الختامي يوم الأحد 4 يناير 2015، ليبهرني كيف ظل جميع ممثليها محتفظين بتألقهم في المرتين، وكيف ظلوا حتى آخر عرض بارعين في إظهار شغفهم بالعزف والغناء والرقص طيلة ثلاث ساعات، ولذلك لم يكن غريباً أن يعاملهم الجمهور معاملة كبار النجوم الذين يقدمون أحيانا من هوليود ضيوفاً على برودواي، حيث صفق جمهور الليلة الأخيرة لهم لأكثر من ربع ساعة تقديراً لأدائهم المتميز، وانتظرهم المئات خارج المسرح بشغف، وتعالت صيحات التهليل والإعجاب حين يطلون على الجمهور من شباك المسرح، وعبر الكثيرون لكاميرات التلفزيون التي جاءت لتغطية الحدث، عن حزنهم الشديد لانتهاء عروض المسرحية التي شاهدها بعضهم أكثر من مرة.
ثمة مفتاح مهم آخر لنجاح المسرحية، بشكل يفوق الفيلم الذي اقتُبست عنه بكثير، هو براعة كاتب النص المسرحي إيندا وولش، الذي حافظ على تتابع الفيلم السينمائي الذي كتبه مواطنه جون كارني، لكنه قدم الأحداث بروح أكثر سخرية، تجلت في حوار يمكن وصفه بالسهل الممتنع، فجعل المسرحية تبدو أكثر حيوية وأخف ظلاً من الفيلم السينمائي، برغم أنها لا تقدم أحداثا مختلفة عنه، ومع أن المسرحية احتفظت بأغلب أغاني الفيلم التي كتبها ولحنها بطلا الفيلم الأيرلندي جلين هانسارد والتشيكية ماركيتا إيرجلوفا، إلا أن أداءها الحي على خشبة المسرح بأصوات ساحرة منحها بريقاً خاصاً، وجعل تجربة حضور المسرحية شديدة الإمتاع والجمال. (أفتح قوسا لأقول أن الفيلم برغم أنه لم يحقق أرباحا أكثر من تسعة ملايين دولار، إلا أنه اعتبر مشروعا مربحا جدا لكل من شارك في إنتاجه، لأنه لم يتكلف أكثر من 180 ألف جنيه استرليني، ولذلك فقد فتح نجاحه أبواب الحظ لكاتبه ومخرجه جون كارني الذي لم يكتف بذلك النجاح، بل قدم أكثر من فيلم كان آخرها وأكثرها تطورا وجمالا ونجاحا، فيلم "ابدأ ثانية" Begin Again الذي لعب بطولته مارك رافالو وكيرا نايتلي).
تحكي مسرحية (ذات مرة) عن علاقة حب تتطور بين فنان أيرلندي موهوب سيئ الحظ ـ تقدمه المسرحية باسم (GUY أو شاب) ـ يعمل في محل والده المتخصص في إصلاح المكانس الكهربائية، وبين مهاجرة تشيكية تستمع إليه بالصدفة وهو يغني في بار أغنية حزينة، كان مقررا أن تكون أغنيته الأخيرة، حيث قرر بعدها أن يرمي جيتاره، ويتوقف عن الغناء الذي لم يجلب له تقدير أحد، بما فيه حبيبته التي كان يكتب أغانيه من أجلها، والتي تركته وهاجرت إلى نيويورك، لكن الفتاة التشيكية ـ والتي تقدمها المسرحية باسم (Girl فتاة) ـ تلومه على قراره بترك الغناء، وحين تعرف أنه يقوم بإصلاح المكانس الكهربائية، تقول له أن هذه معجزة رتبها القدر، لأن لديها مكنسة كهربائية معطلة، وتطلب منه أن يقوم بإصلاحها، مقابل أن تعزف له، فقد كانت تعزف الموسيقى في بلادها قبل أن تهاجر، وفي حين يذهب الإثنان ـ في أحداث الفيلم ـ إلى متجر للأدوات الموسيقية ليشتركا في الغناء هناك، تقوم المسرحية بتقديم شخصية طريفة جدا لصاحب بار ضخم الجثة غريب الأطوار لديه آلات موسيقية ويشعر بانجذاب إلى الفتاة ويعتبر الشاب الذي ظهر فجأة غريما يجب طرده، وبعد مشهد طريف يجمع الثلاثة، تستعين الفتاة بالبيانو الذي يمتلكه صاحب البار، لتعزف للشاب الذي يكتشف موهبتها الموسيقية، فيخرج أغنية كان قد كتبها لحبيبته، ويبدأ الإثنان معاً في غناء أغنية (السقوط ببطء) والتي اشتهرت بكلمات مطلعها الجميلة "أنا لا أعرفك ولكني أريدك". (يمكن الاستماع إلى نسختها السينمائية التي حصلت على أوسكار أحسن أغنية عبر هذا الرابط http://bit.ly/1438zzN).
تتطور العلاقة بين الإثنين، بعد إصلاح الشاب للمكنسة الكهربائية المعطلة، حين تصر الفتاة على أن يقوم الشاب بتسجيل أغانيه على "سي دي"، ليذهب الإثنان إلى مسئول عن منح القروض الصغيرة في أحد البنوك بوساطة من والدتها التي تعرفه، وفي البنك يسمعه الشاب احدى أغانيه، فيتأثر بها مسئول البنك بشدة، قبل أن يكتشف الإثنان أنه يحب الغناء والعزف أيضا، ويخرج جيتارا يغني عليه بصوت ردئ جدا، فيطلبان منه الانضمام كعازف وليس كمغني، إلى فريق العازفين الذي سيقوم بتسجيل ألبوم غنائي سيحمله الشاب معه إلى نيويورك لعرضه على شركات الإنتاج، ولكي يرى صديقته المهاجرة هناك أيضا، وفي أجواء مبهجة، تقدم المسرحية كيف يتواصل تسجيل أغنيات الألبوم، بشكل يظهر شخصيات المشاركين في العزف ومواهبهم المختلفة، ويتخلل ذلك عرض للخلافات التي تحدث بين صاحب البار وموظف البنك، وقيام الشاب بالتعرف على أسرة الفتاة، ليكتشف أنها متزوجة ولديها طفل، لكن زوجها يعيش بعيدا عنها، ونرى مع تطور قصة الحب بين الإثنين، كيف تقف قصة حبه السابقة وزيجتها عائقا أمام تطور مشاعرهما، ويعبر الإثنان عن تطور مشاعرهما من خلال أغنيات رائعة.
أجمل ما في عرض (ذات مرة) والطريقة الذكية التي تم اخراجه بها، أنك لا تشعر خلاله بأنك تشاهد مسرحية مصنوعة سلفاً، واستغرقت وقتا طويلا في تأليفها وتلحينها واخراجها، بل تشعر أنك تشاهد عرضاً حياً، يقدمه فنانون تلقائيون من الذين تراهم كثيرا في شوارع المدن الكبرى في العالم، وهو ما تعبر عنه عبارة رائعة وردت على لسان بطل المسرحية يقول فيها "لا يمكن أن تكون لديك مدينة بدون موسيقى"، وهي عبارة مفتاحية ودالة، ستجعلك تفكر حزينا أسِفا في حالة الموات الموسيقي التي تعانيها شوارع مدننا منذ سنين طويلة، وحتى حين جاء بعض التغيير عقب ثورة يناير، وظهرت مبادرة (الفن ميدان) التي أتاحت الفرصة لكثير من الفنانين الشباب والفرق الموسيقية، أن يغنوا في الشارع وسط الناس، تكفّل الغباء الأمني بمنع المبادرة في عام 2014، في مواصلة منه لسياسة خنق المجال العام وتأميم أي براح ينشأ في البلاد، وإن كانت شوارعنا للأسف تعاني قبل ذلك ومنذ سنوات كثيرة من خلوها من الموسيقى، فباستثناء بعض الفنانين الذين يعزفون العود على مقاهي الحسين ويرددون بعض الأغاني المحفوظة للجميع، وتجربة أخرى لم تدم طويلاً قام فيها بعض الشباب بعزف موسيقى شعبية في بعض شوارع القاهرة، فإنك حين تجول شوارع مدننا المصرية التي يفترض أن أهلها يحبون الموسيقى والغناء، لن تجد حضوراً لافتاً لفنانين يعزفون ويغنون للناس مقابل الحصول على مقابل مادي لما يقدمونه، لأن ذلك سيعرضهم للسخرية والإشفاق، أكثر مما سيجلب لهم التقدير والتشجيع.
أعلم أن الحديث في هذا الأمر ذو شجون، ولذلك سأستدعي فقط في ختام حديثي من بين تلك الشجون، شجن التساؤل في ظل كل هذا الحديث الذي لا ينقطع في وسائل الإعلام الحكومية عن دعم الدولة المصرية للثقافة والفنون، عن إمكانية أن تجد ثلاثين أو قل حتى عشرين فنانا وفنانة، قادرين على الجمع بكفاءة بين مواهب الغناء والرقص والتمثيل وعزف أكثر من آلة، لكي يقدموا عرضاً فنياً مبهجاً كذلك الذي تقدمه مسرحية (ذات مرة)، والذي ستدرك حين تتأمله أنه لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة وجود مؤسسات لتعليم الفنون ورعاية المواهب، ووجود مناخ فني صحي يفتح للموهوبين أبواب النجاح، إذا اجتهدوا في تطوير مواهبهم، لتتم مساعدتهم على إيصال فنهم للناس، ولو حتى بغرض الربح الذي يعم على الجميع، ولولا ذلك لما كان ممكنا لفيلم مستقل قليل التكلفة مثل فيلم (ذات مرة)، أن يتحول إلى ظاهرة سينمائية ومسرحية تحقق كل هذا النجاح المادي والتأثير الفني، في حين يتركز الإنفاق الحكومي الفني في بلادنا المنكوبة، على أوبريتات غنائية عقيمة تهلل لمن يصل إلى السلطة، وتترجم خطبه إلى أغانٍ بلهاء تصبح مع الوقت مثارا للسخرية والتحفيل.
أليس مناسباً هنا أن أختم كلامي بعبارة "جتنا نيلة في حظنا الهباب".