تجربة متميزة وثرية، حفلت مقارباتها التصميمية والإنشائية بتمثل خاص للموروث العربي الإسلامي، وتعزيز ملمح المكان الوطني بجمالياته وبعده التاريخي. تجربة لم تتحقق بمعزل عن قيم الحداثة المعمارية "بل في سياق مستلزماتها الإنشائية والبصرية، وأفكارها واقتراحاتها التجديدية".
كان مكية (الرصافة، 1914) من الذين آثروا المدينة العربية بشواخص وصروح معمارية اعتُبرت نماذج بصرية لها إن في العراق أو في الخليج أو في المغرب العربي.
يتناول الكتاب بالتحليل والنقد نماذج تحتفظ بأهمية قصوى في مسيرة مكية، لما تنطوي عليه من طبيعة تصميمية مبتكرة، نذكر منها: مسجد الخلفاء في بغداد (1963)، مسجد الشيخ حمد في البحرين (1974)، مسجد الصدّيق في الدوحة (1978)، مسجد الكويت الكبير (1984)، مشروع الجامعة العربية في تونس (1983)، وغيرها من شواخص في مدن أخرى.
يقترح الكاتب قراءة تحقيبية للتعاطي مع سيرة مكية المعمارية المهنية، ضمن الاهتمام بأطر زمنية محددة، والاشتغال على انجازاتها وتبيين مؤثراتها الإبداعية. إذ يرصد السلطاني فيها مرحلتين أساسيتين، امتدت الاولى من خمسينات القرن المنصرم حتى منجز جامع الخلفاء (1963). وهي مدة زمنية تميزت بتأثيرات المشهد البنائي المحلي والارتقاء به إلى مصافي التجربة التصميمية الاحترافية، واقترنت أيضاً بالاستفادة من خصوصية المادة الإنشائية التقليدية وجعْلها حاضرة في نسيج عمله التصميمي الجديد، كما في عمارة البيت السكني ومنشآت وظيفية أخرى.
أما المرحلة الثانية فتعزّزت عبر مبانٍ متعددة الأغراض والوظائف، احتفظت بحلولٍ تصميمية عدّت من معالم ما عرف بـ"التيار الإقليمي الجديد". وهو اتجاه طرح مفهوم لا يخلو من خصوصية في العمران، عبر توافق طبيعة الوسط البيئي مع رموز ومفردات نتاجها العمراني.
مسجد الخلفاء في بغداد |
كانت تجربته في هذه المرحلة شاهدة على ولع عميق بالتفاصيل التصميمية وفرادة تعالقها مع ألفة المكان ونماذجه من ناحية ابتكار خصوصية لتلك المقاربة المعمارية؛ والمتآلفة وفق مرجعياتها البيئية والمكانية مع مستلزمات وقيم عمارة الحداثة. وهو الإجراء الذي أكد نهجاً إقليمياً معلناً في المشروع المعماري العربي الحديث.
يتنقل السلطاني بقراءته التحليلية النقدية ما بين 17 مبنى ومشروعاً معمارياً متعددة الوظائف (دار، فندق، كلية، مسجد، مكتبة، مقر...)، ضمن مدى زمني يتجاوز الثلاثة عقود (1951 ـ 1984)، توزعت بين مدن عربية عدة، مبيناً كفاءة هذه المباني في الاستفادة من التراث المعماري المحلي، وفرادة اجتهاداتها التصميمية، وتوظيف معايير الحداثة الطامحة إلى تمثيل روح المكان الذي تنهض به.
يشتمل الكتاب أيضاً على ملاحق، ضم أحدها عدداً من المحاضرات التي ألقاها مكية في مؤتمرات ومناسبات عدة منذ عام 1964، ومقابلات شخصية معه في عدد من الدوريات العربية. وتكشف هذه المداخلات منطلقاته النظرية وطبيعة اهتمامه ووجهات نظره الرصينة في مجال تخطيط المدن، وولعه الراسخ بالمعمار الإسلامي، والعربي خاصةً، الذي ينظر اليه بوصفه تراثاً متميزاً يحتفظ بقيم إنسانية ومقاييس معمارية خلاقة.
وفي الكتاب يتبيّن لنا أن مكية ميّز بين مفهوم "العمران الحضري" باعتباره عمراناً يستوعب قيم التعامل الإنساني، بشرطها الروحي والاجتماعي، وصلتها القائمة على الانسجام مع العالم، في بعدها التاريخي وخبرتها المرجعية؛ وبين مفهوم "العمران المديني" الذي يسعى إلى تكريس المظهرية العابرة، القائمة على الاستهلاك والحذلقة المهنية الفاقدة لأي أهداف قيمية.