قبل أن تنهي عملها الضخم "القاهرة: المدينة المنتصرة في 1001 عام"، أقفلت جانيت أبو لغد الفصل الأخير المُعنون: "استشراف: المدينة.. إلى أين؟"، بالقول "ربما على هذا الكتاب أن ينتهي، بنفس الملاحظة التي تختتم بها كل الكتابات الإسلامية التقليدية، التي تحاول فك رموز الغامض واللامفهوم : هذا والله أعلم".
لقد استطاعت أبو لغد أن تخرج في كتابها هذا، بسلسلة من الأفكار الاستشرافية، كتبت قبل أن تشتعل المدينة اللامفهومة (القاهرة) بحماسة ثورية في 2011، متسائلة "كيف يمكن للمبادئ المنظِّمة للحياة الاجتماعية في القاهرة أن تكون؟ وكيف ستشكّل مستقبل العاصمة؟".
يقدم عمر روبرت هاملتون، في روايته الأولى "المدينة تنتصر دوماً" (منشورات فيبر أند فيبر، 2017) المحاولة الأكثر جديّة للإجابة على أسئلة أبو لغد عن طريق السرد والتخييل، في رواية تلتقط بشكل جميل، وبطريقة أقرب إلى اللغة السينمائية "الجسد، والغضب، والحزن".
يمكن الجزم، بأنه في العقد الأخير من حكم الديكتاتور (حسني مبارك)، بهتت صورة/ حُلم القاهرة الثائرة. فآخر الأماكن المعارضة أو التي كانت تجمع المعارضين وأصحاب الفكر الثوري، تم إغلاقها ومنعها، بما في ذلك "النادي اليوناني" الشهير (يأتي هاملتون على ذكره كثيراً)، الذي كان يمثّل ملاذاً لمن تبقى من الحالمين. لكن وعلى الرغم من ذلك لا تزال القاهرة بكل حمولتها حاضرة في ذكريات جيل يحمل الكثير من الندوب.
يحاول هاملتون تقديم القاهرة في صورتها الخالصة والحقيقية، ويذهب لهذا الغرض إلى ما وراء الاجترارات النوستالجية، والتمثّلات الرومانسية التي قد تجنح إلى تطهير القاهرة، المدينة التي تمثّل شخصية ضخمة تسكن روح كتابه.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: "غداً"، و"اليوم"، و"أمس"، تعيد ترتيب أحداث فترة الثورة بشكل عكسي. فيبدأ بقسم "غداً"، الذي يفتتح بمجزرة قتل 29 مسيحياً قبطياً مصرياً أمام مبنى "الإذاعة والتلفزيون" في ماسبيرو.
ويبدو هذا الخيار حركة ذكية، يتجنب بها هاملتون الدخول في المهمة الصعبة: توثيق الأيام الـ 18 البهيجة لبداية الثورة في كانون الثاني/ يناير 2011. ويقوم بدلاً من ذلك بالتركيز على تحديد الخصائص التي لا تجعل من الثورة سوى عامل محرّك لشيء ما أكبر.
فـ"حافِظ" وهو واحد من الشخصيات المثقفة في الرواية يحترس من تسجيل وتقديم الأحداث بطريقة هوليوودية مضخّمة. إن هاملتون هنا يفكّر في الثورة باعتبارها بنيةً لا أحداثاً، مستحضراً رولان بارت: "لا يمكن أن تعبر الثمانية عشر يوماً هكذا دون أن تبتذل وتصبح كليشيهاً. لقد دُمِّرت هذه الأيام بالفعل بِكُثر ما رُويت وسُردت أحداثها".
بهذه القطيعة الزمكانية، يتمرّد هاملتون على الفكرة القائلة بأن السنوات الست الأخيرة لم تكن سوى شغب وفوضى وضياع. وفي الوقت نفسه لا نلحظ أية محاولة لتقديم صورة نقية لسرديته أو للثورة ككل. إنه يقلب كل معاني الارتياح المؤقّت، ويُغذّي روايته بفكرة جاك دريدا: "الزمن اللاممفصل/ غير المرتب"؛ تلك المنطقة المليئة بالإمكانيات المبهمة.
وجود الراوي العليم يجعل من لغة الرواية القريبة من اللغة الصحافية التقريرية تبدو متماسكة. يستعيد عبرها هاملتون كل تلك الصور والأفكار والمشاعر المترسِّبة، والاحتجاجات التي تم دفنها في سياق القاهرة السياسي المضجر وسريع التحوّل.
بطلا الرواية الأساسيان، حبيبان فاتِران: مريم، ناشطة مصرية تحمل طاقة أموميّة الفطرة، تدفعها للتوثيق والاعتناء بالمصابين والجرحى جسدياً ونفسياً، خلال المواجهات القوية مع الجيش أو "الإخوان المسلمين" أو أي أحد في السلطة، وخليل صانع الأفلام الذكي ذو الأصل الفلسطيني-الأميركي، الذي تساعده براغماتيته في إخراج أفضل ما لديه في أغلب الأوقات. علاقتهما تفشل كما كان متوقعاً، بسبب الحزن الكامن فيهما، ومسارات حياتيهما التي افترقت، بعد أن تم إنزال الستار على ثورة فشلت، في ظل شعبوية خانقة لنظام السيسي، وواجهة "النظام العام".
كان كل من خليل ومريم جزءاً من المجموعة الإعلامية الشبابية "فوضى"، التي تحاكي مجموعة "مُصِرّين" الواقعية، التي كان عمر روبرت هاملتون أحد مؤسسيها. ومن خلال هذه المحاكاة، والتقاطع بين الواقعي والتخييلي، لا يبدو هاملتون هنا خجلاً من تسجيل وتدوين تجربته كمشارك في الحياة الثورية. إذ يترجمها بحرفية ومهارة عبر شخوص أخرى في روايته، مثل حافظ الأكاديمي الشاب الطموح جداً، أو من خلال اقتباس المُنظّر السياسي إريك هوبزباوم (الذي يعده هاملتون أحد المؤثرين في كتابته)، أو حتى في ومضاته العابرة التي يضيء فيها على الاستشراق الفيتشي للفتيات والصحافيين البيض المتيّمين بالطاقة الشهوانية للثورة!
المدينة تنتصر دوماً رواية تدفع نحو قراءة تأملية. قراءة غنية بشكل واضح، بشجاعة مجاورتها للألم والتهكم والبهجة ونسيج الدماء والأجساد، مصورة قاهرة الحاضر الحزينة والسوداوية. فيها، ينسج هاملتون بطريقته الدقيقة جمله، بشعور ممتّد يتأرجح طيفه عبر الرواية، لكنه شعور ينسجم مع حقائق الحب والفقد في آن.
بطاقة
عمر روبرت هاملتون، كاتب ومخرج أفلام مصري ــ بريطاني وناشط سياسي وثقافي مقيم في القاهرة. من أفلامه "مع أني أعرف أن النهر قد جف" (2012) الذي فاز بعدة جوائز. حرّر إلى جانب أهداف سويف، أنطولوجيا أدبية بعنوان "هذه ليست حدوداً" (بلومزبري، لندن 2017).
ساهم في تأسيس المجموعة الإعلامية الشبابية "مُصرِّين" في القاهرة و"احتفالية فلسطين للأدب". نشر مقالات عديدة في الصحف و"المدينة تنتصر دوماً" (2017) هي روايته الأولى.
* نشرت نسخة إنكليزية موسعة من المقالة في LA Review of Books وهي تنشر هنا بالاتفاق مع المجلة.
** ترجمة: معاد بادري