صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب جديد (نيسان/ إبريل 2017)، للمؤرخ السوري محمد جمال باروت، بعنوان "حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية". الكتاب جزء من مشروع بحثي، يعمل عليه الباحث السوري في ما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي - السياسي للفرق الإسلامية الشيعية في بلاد الشام. تبرز أهمية الكتاب في أنه يعمل على تفكيك مراجع البنية الطائفية المُستعادة في المشرق العربي، على هيئة صراع مذهبي هوياتي، يعاد فيه إنتاج طوائف متخيلة حديثاً بواسطة الطائفية وتسيّسها المعاصر.
خصص الباحث الفصل الأول لإشكالية الميتا - إيستوريوغرافيا اللبنانية، بتحكيم الذات الطائفية المعاصرة المتخيلة التي رافقت تحول "متصرفية جبل لبنان" إلى "لبنان الكبير" ثم "الجمهورية اللبنانية"، في طريقة تدوين تاريخ حملات كسروان. وحاول في الفصل الثاني أن يطرح رؤية سردية - تحليلية في ضوء مفاهيم العلوم الاجتماعية المعاصرة لتلك الحملات، ولا سيما مفاهيم المتغيّرات المستقلة والوسيطة والتابعة، وأن يبرز السياق التاريخي المحدّد لتحولات ابن تيمية الذي شارك بنفسه مع بعض تلامذته في حملة كسروان الثالثة، التي أفضت إلى خرابها وتهجير من بقي من أهلها، ودشنت في سياق الصراع المملوكي - الإيلخاني الذي أضفى عليه كل من ابن تيمية والفقيه الشيعي الحلّي شكل الصراع المذهبي والأيديولوجي، عصر التعصب الهوياتي الطائفي في القرن الرابع عشر، كقرن مفصلي في تغيرات البنية الدينية والمذهبية الجماعاتية البشرية لبلاد الشام.
يحدد الكتاب دور ابن تيمية في الحملات الكسراونية، وتطور وعيه ارتباطاً بها، ويمرحل أدوار ابن تيمية في سياق الصراع السياسي المملوكي - الإيلخاني على بلاد الشام، في صيغة ثلاثة أدوار له، تحت أسماء ابن تيمية الأول وابن تيمية الثاني وابن تيمية الثالث، ومن ثم الوصول إلى مرحلة ما بعد ابن تيمية الثالث في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، الذي حل فيه زمن التعصب، والتحول من حقبة إحياء السنّة بوسائل الهيمنة الناعمة، إلى فرضها بالوسائل القسرية المؤسسية. كما حاول البحث في وضع فتاوى ابن تيمية المتعلقة بالآخر المسلم في سياق تاريخها الاجتماعي - السياسي المحدد بالصراع المملوكي - الإيلخاني.
الجديد الذي يقدّمه هذا الكتاب في موضوع بحثه، كشفه عن السياق التاريخي لمفهوم "الدار المركبة" و"الطائفة الممتنعة"، ووظائفها السياسية المباشرة والسياق التاريخي في كلا العهدين المملوكي والإيلخاني. "الدار المركبة"، جاءت من فتوى لابن تيمية حول مدينة ماردين، إن كانت بلد حرب أم بلد سلم؟ أفتى فيها بأن المدينة مركبة "ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسمٌ ثالث يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُقاتَل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه". ويعدّ مفهوم "الدار المركّبة" في هذه الفتوى استحداثاً خالصاً لابن تيمية، في التراث التمييزي الفقهي الذي سبقه بين دار الإسلام ودار الحرب، فلا نجد أيّ أصلٍ لهذا المفهوم في ذلك التراث، وهي الفتوى نفسها التي ستستعيدها الأدبيات "السلفية الجهادية" في أواخر القرن العشرين، وبعده حتى اليوم، مسقطةً حال ماردين على المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
انهار مع السلام المملوكي - الإيلخاني المحور الأول من ترسيمة ابن تيمية الثالث، في العلاقة الروحية والسياسية الضمنية العضوية بين الفرق الشيعية والعرفانية، والتتار، المرتبطة بالمتغيّر المستقل للصراع المملوكي - الإيلخاني، التي نشأت كمتغيرٍ تابع على خلفية هذا الصراع. كما انهارت ترسيمة "الدار المركّبة" التي انفرد بها بين سائر الفقهاء الذين سبقوه، وإعادة بنائه المفهومي لمصطلح "الطائفة الممتنعة"؛ حيث جعل له مفهوماً جديداً مرتبطاً وظيفياً بتداعيات الصراع المملوكي - التتاري، لكن يمتلك قدرة ذاتية على التطور والاشتغال وقابلية إعادة الإنتاج بمعزل عن الشروط السياسية التي حكمته. ويقوم هذا المفهوم على أساس أن المسلمين في جانب، والخارجين عن الإسلام في جوانب أخرى، يجب قتالهم مع أنهم يتلفظون بالشهادتين حتى يقيموا شعائر الإسلام؛ فإن أقاموا الصلاة والزكاة... إلخ، لكن إن امتنعوا عن إقامة شعيرة واحدة من الشعائر الظاهرة المتواترة، وكانوا ذوي شوكة فيجب قتالهم شرعاً حتى يقيموها. وكانت هذه البلورة موجهة وظيفياً ضد التتار "المسلمين". كما قامت أيديولوجيا ابن تيمية الثالث الفتووية بعد حملة كسروان، على الربط العضوي بين الشيعية والثيو - صوفية، والتتار في مرحلة استعار الصراع المملوكي - الإيلخاني.
ولهذا يمكن القول إن ابن تيمية جعل "الطائفة الممتنعة" مصطلحاً/ مفهوماً قائماً بذاته، لتوظيفه سياسياً ضد التتار والفِرق العرفانية والشيعية بدرجةٍ رئيسةٍ في مرحلة تجدد الصراع المملوكي - التتاري. بلور ابن تيمية مفاهيمه ضد الفِرق الثيو - صوفية العرفانية والشيعية، مازجاً إياها - بمناسَبة وبغير مناسبة - بالجَهمية ككناية، أو ما يتجاوزها إلى مواجهة مع المؤسسة الفقهية المملوكية ذات الهيمنة الشافعية الأشعرية، في سياق تاريخي محدّد هو سياق الصراع المملوكي التتاري الإيلخاني على بلاد الشام، الذي حوّل ابن تيمية من ابن تيمية الأول السلفي الدعوي إلى ابن تيمية الثاني المشارك بفاعلية في الحياة الاجتماعية والسياسية العامة، ثم إلى ابن تيمية الثالث الأشدّ في عنفيّته الفئوية ضد الفِرق الشيعية خصوصاً، باضطراد مع مواصلة شرعنته للحملة الكسروانية الثالثة، وتمثّله الموقف المملوكي إبان الصراع المملوكي - الإيلخاني.
بينما تراجع ذلك كله بصورة تامة بعد السلام المملوكي - الإيلخاني التتاري، فلا نكاد نعرف لابن تيمية بعد السلام المملوكي - الإيلخاني فتاواه العنيفة ضد الفِرق الشيعية والعرفانية؛ إذ كانت فتاواه وأفكاره في هذا الخصوص محدودة بزمن الصراع. كما أنها كانت وثيقة الصلة بمحاولة اضطلاعه بفقيه عضوي مرجعي، أو مرشد "ناصح" للسلطان المملوكي، كما تشهد بهذا الرسائل الموثّقة التي كان يرسلها إليه. واستخدم السلطانُ ابنَ تيمية أذكى استخدام، غير أنه سرعان ما رماه جانباً وتلامذته مع انتهاء الصراع، وهذا يكثّف إشكالية العلاقة المعقّدة بين ابن تيمية والسلطان الناصر؛ فلم يكن الأول في النهاية أكثر من فقيه "متشدّد" في العلاقة بالسلطان المملوكي "المسلم"، وإن كان فقيهاً "مميّزاً" بتقواه السلفية، ولم يكن يتورع عن الهشّ بالاعتماد على السلطان في مواجهة خصومه من فقهاء الأشاعرة، واتهام خصومه بأنهم عيون وأياد للإيلخانيين، بل لم يكن يتورع عن تكفير بعض أعيانهم خلافاً لقواعده في تكفير المعيّن.
يقدم البحث مساهمة مميزة وفريدة في المجال الإيستوريوغرافي العربي، من حيث نقد كتابة التاريخ وتحديد العيوب الإيستوريوغرافية الأساسية ممثلة في التواريخ اللبنانية لحملة كسروان، والتي تعتبر مثالاً للعيوب الإيستوريوغرافية في كتابة التاريخ على كافة المستويات المنهجية والمعرفية. حيث تقوم معرفياً على التمثل الطائفي المعاصر للتاريخ وإعادة انتقاء أحداثه، بما ينسجم مع هذا التمثل، ويقصد به الباحث الطوائف اللبنانية المُعاد تمثلها في الطائفية السياسية بعد نشوء لبنان المعاصر. فما زلنا نعيش في العصر المملوكي. ولا يزال الوعي الإسلامي محكوماً حتى الآن ببراديغم (النموذج الفكري) القرن الرابع عشر المملوكي.