رجعيّات كمال داود السياسية ومكافأة "غونكور"

07 نوفمبر 2024
كمال داود في جلسة تصوير بباريس عام 2019 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- منح "جائزة غونكور" لكمال داود يثير الجدل بسبب مواقفه السياسية المثيرة للجدل، والتي تتضمن آراء رجعية ويمينية معادية لليسار، مما يثير تساؤلات حول القيمة الأدبية لروايته "حوريات".
- تُروَّج رواية "حوريات" كسردية مزيفة للحرب الأهلية الجزائرية، حيث يتجاهل داود الأعمال الأدبية الأخرى ويفسر الإرهاب من منظور مَاهَوِي، مما يعزز الأفكار النمطية السلبية عن العرب والمسلمين.
- انبهار لجنة "غونكور" برواية داود يُعتبر مكافأة لنظرة نمطية استشراقية، ويُنتقد داود لكونه يعكس ضعف التحليل لدى بعض المثقفين الجزائريين.

يُمكن للقارئ العربي غير المُطّلع على واقع الساحة الأدبية والفكرية في فرنسا، وخصوصاً في ظل الجمود الفكري والثقافي شبه التام لِما يُسمى بالمُثقفين و"السادة الدكاترة" في الجزائر، سواءٌ كانوا مُفرنسين أو مُعربين أو مُزدوجي اللغة، أن يعتبر أنّ منْح "جائزة غونكور" لِكمال داود هو بالفعل "أبرز تكريم أدبي فرنكفوني" يحصل عليه كاتب جزائري منذ الاستقلال.

لكن، وبعيدًا عن أي قيمة أدبية أو جمالية، ما كُرِّم في رواية "حوريات" أو "حور عين" Houris هو محتواها المَاهَوِي ومواقف كمال داود السياسية التي يُدلِي بها، منذ سنة 2014 في أسبوعية "لوبوان" اليمينية المتطرفة، وهي تتمثل في آراء وأفكار رجعية، يمينية، مناهضة لليسار والحركات التقدمية الفرنسية، معادية لحقوق العُمَّال المهاجرين، كارهة للمسلِمين والجاليات العربية في حدِّ ذاتها، موالية لسرديات اليمين المتطرف الإسرائيلي الكولونيالي، ساكتة عن النكبة وحرب تدمير فلسطين ولبنان، مُبرِّرَة في نهاية المطاف إبادة شعب أعزل ومُحْتَل منذ مئة عام.

و2014 هي أيضاً سنة صدور الطبعة الفرنسية لرواية "ميرسو، تحقيق مضاد" ونيل الكاتب عنها جائزة "غونكور للرواية الأولى"، التي من علائم انتهازية كاتبها الدالة في وقتها، أن طبعتها الأولى الصادرة في الجزائر عن "دار برزخ" في سنة 2013، مختلفة بعض الشيء - وفي أمور جوهرية من الناحية السياسية - عن طبعة دار "آكت سود" المنشورة في فرنسا في العام التالي، فالنقد الموجه لشخص الكاتب ألبير كامو في الطبعة الجزائرية أكثر حِدَّة من نقد الطبعة الفرنسية. في الجزائر، يناهض كمال داود كولونيالية أدب ألبير كامو؛ أمّا في فرنسا، فهو يُعرب عن ثَنائهِ على الموهبة الأدبية لصاحب رواية "الغريب"، وعن تبجيله خاصَّةً للغة الفرنسية.

لجنة كتّاب رجعيين يبيعون الأدب بالتواطؤات السياسية

منذ صدور "حوريات" في آب/ أغسطس الماضي، رَوَّج الإعلام المُهيمن في فرنسا، وعلى الساحة الباريسية خاصَّة، لرواية كمال داود وسرديته المُزيفة للحرب الأهلية الجزائرية (التي يسميها النظام "العشرية السوداء"، معفياً نفسه من المسؤولية التاريخية والأخلاقية باتجاه كُل مواطن جزائري) بنزعة إجماعية وشبه قطيعية، مُجرّدة من أي محاولة نقد أُسلوبي، جمالي أو سياسي. ويكمُن تزييف كمال داود في ادعائه أن جُلّ الجزائريين لم يكتبوا عن هذه الحرب الدمويَّة سوى كتابين أو ثلاثة وأنه هو الكاتب الوحيد الذي تحلّى بشجاعة تبدو خارقة للعادة لـ "كَسر تابو الحرب الأهلية الجزائرية" كما ادَّعت أسبوعية "لوبوان" Le Point في الثامن من آب/ أغسطس.

وزيادة على هذا، يُفسِّر كمال داود في هذه الرواية منزوعة الرُّوح الأدبية، بأسلوب سطحي ومن منظور مَاهَوِي، إرهاب الجماعات التكفيرية الجزائرية بكونه نابعاً من القرآن والسُّنَّة النبوية وإِثنيَّة العرب، التي يعتقد أنها تحمل العنف والحرب في كينونتها، لا من سنوات استبداد عسكري، وريع اقتصادي، وظلم اجتماعي وتَسيِيسْ مشين وخطير للدين من أجل محاربة اليسار والأفكار التقدمية في الجزائر. الشيء المُثير للاستهجان في ظل هذا الهيجان الإعلامي حول رواية كاتبنا "العالمي" هو إلغاء عشرات الأعمال الأدبية، التاريخية والسياسية، بالعربية وبالفرنسية، التي تطرَّقت بكلّ نزاهة ورزانة للحرب الأهلية الجزائرية، من طرف "الشُّجاع" داود الذي، ويا عجبًا، يمدحُ الكُتب والكُتَّاب ليلًا ونهارًا.

فالشيء الأساسي الذي غاب في قراءات "حوريات"، أن هذا العمل شديد التسيِيس هو إعادة كتابة معكوسة لرواية مسحها من قائمة أعماله، هي "يا فرعون" (صادرة عن "دار الغرب" في وهران عام 2005). في ذلك العمل، يدافع داود عن أطروحة "العسكر هو المجرم الوحيد" في الحرب الأهلية. أما في "حوريات"، فالأطروحة المدافَع عنها هي عكس الأولى: "الإسلاميون هم مجرمو الحرب الأهلية الفعليون". في "حوريات" يبرئ كمال داود استبداد السلطة من خلال اختلاقه لشعب جزائري أحمق، رجعي ومتطرف في جوهره، غير قابل لبلورة مشروع سياسي جاد إلا من خلال الكره الأعمى لفرنسا ولغتها (التي يعتبرها الجزائريون في الحياة العادية واحدة من لغاتهم إلى جانب الأمازيغية في تعدُّد لهجاتها). تنميط الجزائريين في "حوريات" بوصفهم شعباً بلا ذاكرة، ومجرّداً من أي وعي تاريخي وقابلاً لابتلاع خرافات السلطة وخزعبلاتها، أمر يخدم الأفكار والسياسات الرجعية في فرنسا وفي الجزائر أيضاً.

"حوريات" إعادة كتابة معكوسة لرواية مسحها من قائمة أعماله

وبالنسبة إلى انبهار لجنة "غونكور"، المُكوَّنة من كتّاب رجعيين يبيعون الأدب بمِثقال التواطؤات السياسية مثل باسكال بروكنير، والطاهر بنجلون وبيار آسولين، بعمل كمال داود الأدبي الجديد، فهو مجرّد مكافأة لمصادقة كاتب جزائري على نظرة نمطية ذات طابع استشراقي للعرب والمسلمين لا تزال تهيمن على أوساط أدبية باريسية، مَهووسة بتكريم وتمجيد أشباه الكتّاب والمثقّفين العرب الذين باعوا أنوار ابن رشد وشرارات المعرّي برداءة في سوق "صراع الحضارات" الخرافي.
 
ويمكن للقارئ أن يجد تلخيصاً لاستبدال كمال داود للأدب بِسِياسَات استعمارية في نصّ كتبه بعد السابع من أكتوبر 2023 بعنوان "رسالة إلى صديق إسرائيلي لا أعرفه" ("لوبوان"، 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، يتبنّى سردية الاحتلال الإسرائيلي وسرديات أوروبا الاستعمارية حول فلسطين وسائر البلاد العربية.

من حق القارئ العربي، خاصة إذا كان من المشرق، أن يعلم أن "أعيان" الأدب الفرنكفوني من العرب، أمثال كمال داود، وبوعلام صنصال، والطاهر بنجلون وحتى أمين معلوف، هم مجرّد أقلام تهتز وتنفعل على أنغام الاضطرابات السياسية؛ أقلام ثملة لا يحق لها الكلام إلَّا إذا نطقت وصرخت بشهادة "أشهد أنه لا يمكن للغرب أن يعيش إلّا في صدام دائم مع الشرق وأن مشاكل العرب والمسلمين نابعة من صلب لغتهم وجوهر دينهم".

واعتراضًا على ضعف تحليل بعض "السادة الدكاترة" الجزائريين الذين يتهكمون على شخص كمال داود، واصفين إياه بِـ"الحركي" و"الخائن" و"ابن فرنسا"، على الناقد فهم وتحليل انبهار بعض أشباه الكتّاب العرب باليمين المتطرف الأوروبي والإسرائيلي في سياقه السياسي والفكري والاقتصادي، للتمكن من كسر الشرخ الوهمي بين "الشرق والغرب" الذي يحجب عن الكثير من العرب رؤية مشاكلهم الأساسية، التي تكمن في ديمومة الأنظمة العسكرية والنيوليبرالية وحالة الاستلاب الثقافي المتحالفة معها.


* كاتب وصحافي من الجزائر

المساهمون