تفتقرُ الجزائر إلى مجلاّت ثقافية متخصّصة تواكب جديد الإصدارات الأدبية والفكرية وتتابع المشهد الثقافي الذي يكاد الاهتمام به ينحصر على المتابعات الآنية في وسائل الإعلام. ورغم أن الجوّ يبدو مهيَّأً لاحتضان مجلّات كهذه، إلا أنَّ عقبات كثيرةً تجعل من إصدار مجلّة ثقافية أقرب إلى مغامرةٍ غير مضمون النتائج.
في ظلّ هذه المعطيات، صدرت مؤخّراً مجلّةٌ جديدة متخصّصة في النقد الأدبي باسم "فصل"، في ما يبدو محاولةً لسدّ فراغٍ يشهده هذا المجال.
في حديث إلى "العربي الجديد"، تقول مايا وعبادي، مديرة "دار الدوافع للنشر"، التي أطلقت المجلّة، إنَّ الفكرة بدأت حين كانت تعمل في إحدى دور النشر الجزائرية: "كنتُ ألمس المجهودات الكبيرة التي يبذلها الكاتب والناشر ومصمّم الغرافيك وعامل المطبعة من أجل تقديم الكتاب للقارئ، ثمّ أشعر أن كلّ ذلك يتبخّر بمجرّد نشر العمل؛ إذ تغيب الأصداء النقدية حوله. هذا التصحُّر في مجال النقد حفّزني على المُضيّ قُدماً في المشروع".
خَصّص العدد التجريبي (صفر)، الذي جاء باللغتين العربية والفرنسية، ملفّاً لما يُسمّى أدب العشرية السوداء في الجزائر، تقول وعبادي إنه لم يكن مبرمَجاً مسبقاً بل فرض نفسه: "لم يكُن وارداً تخصيص ملفّ حول موضوعٍ بعينه. لكن، حين بدأنا باستقبال المواد، لاحظتُ أن معظَم ما كان يصلنا هو مقالاتٌ حول ما كُتب عن الأزمة التي عاشها البلد في التسعينيات".
تضمّن الملف قراءة تقارن بين روايتَي "الطمس" لسمير تومي و"ما بعد الفجر" لمنير آيت الهادي (2015)، وثلاثة حوارات مع كتّاب تناولوا العشرية السوداء في أعمالهم الأدبية من زوايا مختلفة؛ حيثُ عاد الكاتب والصحافي احميدة العياشي، في حوار مطوَّل افتُتح به الملف، إلى الأسباب التي دفعته لكتابة روايته "متاهات، ليل الفتنة (200)، معتبراً العمل محاولةً لفهم ما كان يجري حوله من جنون: "كتبتُ هذه الرواية كي لا أكون ضحية تلك الفترة".
من جهته، قال الروائي عدلان مدّي إنه كتب روايته "1994 " (2017) بصفته ناجياً من تلك الفترة الدموية؛ حيثُ تناول قصّة مراهق استطاع أن يُفلت بجسده من الرصاص، لكن التسعينيات تركت ندوباً لا تُمحى في نفسيته. إنه عمل يروي زمن العشرية السوداء من وجهة نظر المراهقين الذين "شاهدوا العالم ينهار من حولهم وينفجر في اللحظة التي حاولوا فيها بناء حياتهم. الأمر أشبه بطائرة تنفجر عند إقلاعها".
أمّا الروائي والمترجِم محمد ساري، فتحدّث عن روايته "الأمطار الذهبية" (2016) التي قال إنها كتابتها استغرقت منه خمس عشرة سنة كاملةً؛ إذ ظلّ يكتب ويحذف، وفق تعبيره، مضيفاً أنه حاول في هذا العمل رصد الأجواء التي مهّدت للعنف في الجزائر، بصفته شاهد عيان.
كما قدّمت المجلة مقتطفات من روايات لم تصدر بعد، وقراءةً في الباكورة الروائية للكاتب الجزائري جلال حيدر "المذياع العاق" (2018)، وإضاءات على روايات "جميلة الدار البيضاء" للكونغولي جان بوفان، و"مجنون الملك" للمغربي ماحي بنين، و"غذاء للقبطي" للمصري شارل عقل، وجميعُها صدرت في 2017.
تتحدّث وعبادي عن العقبات التي واجهتها خلال رحلةٍ استمرّت لأكثر من سنةٍ لتجسيد مشروعها، قائلةً إن تكلفة المجلّة كانت العقبة الأولى، ما اضطرّها إلى طبع مئة نسخةٍ فقط "في انتظار تحسُّن وضعنا المادي". وأمام محدودية الإمكانيات المتوفّرة، قرّر فريق العمل الاشتغال على العدد التجريبي يدوياً؛ حيثُ جرى إلصاق أوراقه وطبعه في المنزل.
مع ذلك، تُبدي وعبادي حذراً في التعامل مع رجال الأعمال والمؤسّسات الاقتصادية لتمويل المشروع، خشيةَ فرض وجهة نظر معيّنة على الخط التحريري: "أريد الحصول على تمويل من جمعيات تعمل في الحقل الأدبي، وسنعتمد أيضاً على مبيعات العدد صفر في التحضير للأعداد القادمة. لسنا مُنغلقين أمام فكرة التمويل، لكننا نريد أن نحافظ على استقلاليّتنا".