أمّا في ديسمبر، حين يغدو عالَم الكاريبي بلّوريًّا، فكان يستقلُّ العربة المسقوفة ويرتقي الأطناف الصخرية وصولًا إلى البيت المُقام على قمة الشعاب، وهناك يقضي المساء في لعب الدومينو مع الطواغيت القدامى الذين قد حكموا بلدانًا أخرى في القارة نفسها.
أولئك الذين كانوا آباء لأوطان أخرى ثم خُلِعوا عن عروشهم، فأنعم عليهم بالملجأ على مدى أعوام طوال وهم الآن يطعنون في العمر في ظلِّ رحمته، حالمين بزوارق من نسج الخيال من شأنها أن تمنحهم فرصة ثانية، وهم جلوس على مقاعدهم في الشرفات، يحدِّثون أنفسهم، موتى يقضون نحبهم شيئًا فشيئًا في دار الراحة التي شيَّدها من أجلهم على مشارف البحر بعد أن استقبلهم جميعًا وكأنهم رجل واحد ليس إلَّا.
كان كل واحد منهم يصل عند بزوغ الفجر مرتديًا زيَّه بالمقلوب فوق ثياب النوم، حاملًا صندوق نقود منهوبة من الخزانة العامة وحقيبة تحوي كيس الأوسمة، وقصاصات صحف مُلصَقة في دفاتر حسابات قديمة وألبوم صور حيث يظهر هو خلال الاجتماع الأول، كما لو كانت أوراق اعتماده، ويقول: انظرْ سيدي الجنرال، هأنذا حين كنتُ ملازمًا، أما ذلك فيوم تولَّيتُ الحكم، أما تلك فالذكرى السادسة عشرة لتسلُّم مقاليد السلطة، انظرْ هنا سيدي الجنرال.
كان ينعم عليهم بالحق في اللجوء السياسي من دون أن يلقي إليهم بالًا أو يتفحَّص أوراق اعتمادهم، فلا يجدر برئيس مخلوع أن يحمل سوى بطاقة هوية وحيدة، شهادة وفاته، كان يقول، وبالازدراء نفسه ينصت إلى خطاب هزيل واهم يقول فيه إنني أتقبَّل ضيافتكم النبيلة زمنًا يسيرًا ريثما تقتصُّ العدالة الشعبية من مُغتصِب السلطة، أسطوانة الوقار الصبياني المعهودة التي يتلوها عليه مُغتصِبُ السلطة بعد قليل، ثم يتلوها عليه مُغتصِبُ السلطة من مُغتصِب السلطة، وكأنما الحمقى المُغفَّلون لا يعلمون أن السقطة لا نهضة منها في سياسة الرجال.
كان يُنزِلهم جميعًا في البيت الرئاسي بضعة أشهر، حيث يرغمهم على لعب الدومينو إلى أن يجرِّدهم من آخر سِنْت بحوزتهم، وإذا هو يقتادني من ذراعي إلى النافذة المُطلَّة على البحر، ويعينني كي أتحسَّر على هذه الحياة اللعينة التي لا تمضي سوى في اتجاه واحد ليس إلَّا، ويعزِّيني بوهم الرحيل إلى هناك، انظرْ، إلى هناك، إلى ذلك البيت مترامي الأطراف الذي يبدو وكأنه عابرة محيطات جنحت على قمة الشعاب، هناك حيث هيَّأتُ لك حجرة يغمرها الضياء وتُقدَّم فيها أطايب الأطعمة.
هناك تجد أمامك من الوقت مُتَّسعًا للنسيان في صحبة رفاق آخرين يشاطرونك المصاب نفسه، زِدْ على ذلك الشرفة المُطلَّة على البحر حيث يروق له الجلوس في أمسيات ديسمبر، لا استمتاعًا بلعب الدومينو مع ثلة المُغفَّلين بمقدار ما هو طلبٌ لتلك اللذَّة الخبيثة التي يبعث عليها شعوره بأنه ليس واحدًا منهم، ولكي يطالع نفسه في مرآة العِبَر المُستفادة من بؤسهم بينما هو يتمرَّغ في بِرْكة شاسعة من السعادة، ويحلم وحيدًا.
* مقطع من الفصل الأول من "خريف البطريرك" (دار التنوير، 2018)
** ترجمة عن الإسبانية مارك جمال