تستأثر السينما والدراما التلفزيونية بنصيب الأسد في استرجاع وإعادة صياغة أعمال مدوّنة الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ (1911 - 2006)، وهو وضعٌ غيّب استعمالات متنوعة أخرى منها التجارب التشكيلية، والتي قد لا تقل ثراءً عن مثيلاتها الدرامية.
كان هذا هو الدافع وراء مقال الكاتب أشرف أبو اليزيد المنشور في 2006، وفيه حاول أن يناقش جانباً غير مطروق في دراسة منجز محفوظ، قبل أن يتحوّل ذلك المقال إلى بذرة لكتابه "نجيب محفوظ.. السارد والتشكيلي" الصادر مؤخراً عن "الهيئة المصرية للكتاب".
يخوض الكتاب رحلة في تاريخ تناول الفن التشكيلي لمنجز صاحب الثلاثية، وهي رحلة لا تبدو مجرد "أرشفة" للأعمال الفنية، بقدر ما هي كاشفة لفوارق في فلسفة أولئك الفنانين الجمالية، سواء أكان الأمر متعلقاً بمسيرة محفوظ الأدبية، أو بتاريخ الرسم.
الراحل الحسين فوزي (1905 - 1999) الذي صاحبت رسوماته فصول "بين القصرين" منذ 1954 في صحيفة "الرسالة الجديدة"، ثم "أولاد حارتنا" في "الأهرام" منذ 1959، اعتمد على النقل شبه الحرفي لمشاهد حوارية من الفصل المنشور تبدو أقرب للتصوير السينمائي المخلص بشدة لأجواء الحوار كما صوّره الكاتب.
وكذلك فعل الراحل جمال قطب (1930 - 2016)، رسام روايات محفوظ لعقود طويلة مع ناشره عبد الحميد جودة السحار مالك "مكتبة مصر"، والذي قدم - فضلاً عن رسم الأغلفة - رسوماً داخلية، التزم فيها شأنه شأن فوزي بدقة النقل الحرفي والاعتماد على المشهد الحواري، وهو ما رآه نوعاً من الأمانة، ليقدم نفسه كـ"شارح" لرؤية الكاتب.
ارتبط جمهور القرّاء بشكل وجداني مع الأعمال التي شارك فيها هذان الفنانان، وهو الأمر الذي ربما جعل من تقبل المرحلة التالية، التي مثل فيها الفنان سيف وانلي (1906 - 1979) خطوة مهمة، أمراً صعباً. فمثلاً، انتقد الكاتب بول سوليفان في مقال له لوحات وانلي التي صاحبت "المرايا" خلال فترة السبعينيات، والتي قدم فيها محفوظ "بورتريهات" لشخصيات عرفها خلال حياته، فقد رأى سوليفان أن رسومات وانلي لم تكن مطابقة للبورتريهات، غير أن أبو اليزيد ينتصر لرؤية وانلي المستقلة والتجديدية.
تمنح هذه الرؤية الفنية الجديدة الفرصة للكاتب ليقدم قراءة فنية عميقة في لوحات وانلي ثم في التجارب التالية، وبخاصة مع الفنان حلمي التوني (1934)، الذي صار راسم أغلفة محفوظ في طبعات "دار الشروق" التي حصلت على حقوق نشر رواياته، حيث يطرح الفنان لوحاته كعمل إبداعي مواز، وليست مجرّد رسومات شارحة تخدم رؤية الكاتب.
وكما قدّم وانلي قراءته الخاصة لبورتريهات "المرايا"، يقدّم التوني قراءته الخاصة لشخصيات رواياته المختلفة، مجتذباً إياها نحو عوالمه الأثيرة التي تحتل المرأة المساحة الأوسع فيها، وهو ما يتوقف عنده أبو اليزيد، الذي يمضي كذلك إلى التحوّل الذي طرأ على شكل الغلاف وهو ما قد يعد انعكاساً لارتفاع أسهم الكاتب نفسه بعد "نوبل"، والانتشار العالمي المصاحب لذلك.
يبلغ هذا الإنتاج الإبداعي الموازي المستقل عن العمل السردي، ذروته في أعمال الفنان محمد حجي (1940)، الذي رسم "أحلام فترة النقاهة" وكذلك نصوص "أصداء السيرة الذاتية"، حيث كانت الأحلام موضوعة شاغلة للفنان حتى قبل عمله مع محفوظ، بالإضافة لطبيعة النصوص نفسها المفتوحة على تأويلات عدة، لينتج لوحات سريالية تعتمد على المخزون النفسي أكثر مما تعتمد على التصوير الحواري.
بجانب أولئك الفنانين، يتناول أبو اليزيد عدة تجارب أخرى في كتابه/ألبومه، مثل صلاح عناني (1955) وحتى رسامي الكاريكاتير مثل جورج بهجوري (1932)، بالإضافة للنظرة الغربية تشكيلياً لمنجز محفوظ، حتى إنه يمضي ليتناول تجارب "الكوميكس" التي استفادت من المنجز التقني.