"المجاز بات بارداً../ منفى.."، لا تمرّ هذه المقولة عابرةً في مجموعة "الفهرس السوري" التي صدرت حديثاً عن "منشورات المتوسط" في مدينة ميلانو الإيطالية؛ إذ يُكثّف الشاعر السوري، علي سفر (1969)، رفضه أن تكون نصوصه هذه تعويضاً عن خساراته في وطنه، ولا يريد أن يطمئن للحظة أنه ابتعد عنه، وأنه صار لزاماً عليه أن يبتدع عالماً جديداً من لغة وكلمات يسكنها ليتأمّل كلّ هذه الفجيعة.
يعترف في مفتَتح كتابه بالقول: "لا أريد أن أحتفط بعقلي، خذوه مني، لم يعد ينفعني"، وهو بذلك يختار الجنون على أن يُسلّم بكلّ ما حدث وما سيحدث، ولم يعد يريد أن يحتفظ باللغة ولا شيء ممّا قاله يستحقّ الإبقاء عليه لعلّه ينجو من رصاص القتلة، رغم وعيه المطلق بأنه لن ينجو إلّا بالتذكّر.. وعبر اللغة التي هي وحدها ما يستحق أن يبقى.
من هنا، يبدأ صاحب "طفل المدينة" في تقطيع مشاهد اختبرها عن قرب: الغوطة التي لا تبعد سوى مئات الأمتار عن حي "الدويلعة"؛ دمشقه الصغيرة التي عاش فيها قبل أن يوقن أن بلاده ليست سوى "ثقب أسود جامد" على الخريطة التي لا يأبه أحد بتدميرها وحرقها وذبحها وقهرها، ما دامت "ستعود إليكم نشرات الأخبار نظيفة من الدم".
يوثّق الحواجز التي يستطيع الجميع رؤية الجثت متروكة قربها في عراء الصباح، والقتلى الذين "ينفضون ما اعتبرناه الأبد"، والنعوات التي تُكتَب لهم، والمقابر الجماعية والغرقى، قبل أن ينتقل إلى المنفى الذي يتناسل تفاصيل كثيرة "كيلا يتوه أحد".
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول سفر: "كتبتُ في السابق أن "المنفى ليس قصيدة.. بل حادثة!" ومنذ خروجي من سوريا وحتى اللحظة، أعيش في تداعيات هذه الحادثة الشخصية، رغم أن التشارك في المعاناة مع عموم السوريّين المنفيّين يمنحك نوعاً من الدعم النفسي، إلّا أن إيقاع الزمن في المنفى بالنسبة إليّ صار ممطوطاً إلى درجة مريعة، رغم أن النهارات تنتهي سريعاً، وكذلك الليالي".
يضيف: "الكتابة، وكما شعرت بها طيلة السنوات السابقة، هي محاولة لإعادة وقتي الشخصي وتفاصيله كما يجب أن يكون، لا كما فعل به زمن الحادثة. تخيَّل أننا ننحدر بسرعة هائلة في ثقب ضوئي، ولكنك تمد يدك خارج المركبة وتحاول إيقافها، الكتابة صارت هي ذلك المسمار الذي نعلّقه في الأثير لنتمسّك به، وكلّنا ثقة أنهسيمنعنا من الانسحاق أكثر".
عن سؤال ماذا يعني أن تكتب الشعر كسوريّ اليوم، يجيب صاحب "اصطياد الجملة الضالة" (2004)، قائلاً: "إذا كان لا بدّ من أن يكون للأشياء معنى محدّد، فإنني أظن الشعر بالنسبة إلى السوريّين، من علامات بقاءهم على قيد الحياة، كما نقول عادة ونحن نرفع الهمم في مواجهة الموت.. معنى كتابة الشعر وأنت محاط بكل هذه الوقائع المميتة هو أنك تنتقل من عتبة "مجرّد الحياة" إلى عتبة تؤكّد فيها على أنك لا تستطيع العيش بشعر معقّم، مخصي! بل إنك تحتاج لأن تواجه صورة مجزرة فاقت تفاصيلها الخيال، بصورة تكتبها، وتبقيها حاضرة، أمام من سيقرأ التفاصيل ذات يوم".
يُتابع: "الشعر، هنا، سيجعل الوقائع غير قابلة للتزوير أو التحريف، وهذا بعض أدواره.. لا أميل إلى التنظير حول فعالية الشعر، ولكنني ومنذ بداية الثورة وجدت أن الشعر صار أكثر عفوية، وأقل تكلّفاً.. ومع تحوّلاتها صار جزءاً أساسياً في ذاكرتها، وقد حمل صوراً من أحلامها المشتهاة".
يلفت صاحب "بلاغة المكان" إلى أن "الخروج القسري من سورية جعل استعادة التفاصيل وإعادة ترتيبها، وكذلك التأمّل في جوهرها، ممكناً، وبشكل أشدّ قسوة على الذات؛ حيث صار تفكيك التفاصيل ضروريّاً أكثر؛ أفعال القتل اليومية، ليست واحدة، بل يجب النظر فيها وفهرستها، لكي تكون مفهومة، وكذلك صور الموتى، وأيضاً طرائق تعبيرنا كسوريّين ملتاثين بالكارثة عن الحب، وفي السياق نتحدّث عن أشكال الموت، وعن الحيوات المفقودة في محاولات النجاة".
ويستدرك: "حتى اللحظة لم أكتب عن رحلة خروجي من سورية، لكنني فهرست الطرق، وكذلك مستويات التنفّس المتصاعدة، ونبضات القلب، وأنت تناور بين حواجز النظام لكي لا يكتشف أنك تهرب من جحيمك! لا أظنّ "الفهرس السوري" يستوعب ما حصل للسوريّين، هو محاولتي لكي أستوعب ما جرى لي، وأنا أحاول البقاء".
يُذكر أن علي سفر شاعر ومخرج سوري أصدر عدّة مجموعات شعرية؛ من بينها: "صمت" (1999)، و"يستودع الإياب" (2000)، و"طفل المدينة" (2012)، و"يوميات ميكانيكية" (2014).