تعتمد القراءات المعاصرة لابن رشد (1126 - 1198) بشكل أساسي على الصورة التي جرى تقديمه بها أوروبياً حين استُخدمت أفكاره ضد سلطة الكنيسة منذ القرن الثالث عشر، في حين أنه لا تناقض لديه بين الفلسفة والدين في بحثهما عن الحقيقة التي تحتمل وجوهاً عدّة.
ولا يزال الانطباع المهيمن في الثقافة العربية يتمثّل باستعداء السلطة لصاحب "تهافت التهافت"، وهي فكرة تجانب وقائع التاريخ التي تشير إلى اختلافه لأقل من عامين مع الأمير أبي يوسف يعقوب المنصور قبل أن يستعيد حظوته قاضياً ومستشاراً. لكن أفكاره في هذا الإطار تستحق التأمّل، إضافة إلى اعتباره آخر الفلاسفة العقلانيين بعد انتصار تيار النقل في الثقافة العربية، وهي أيضاً مقولة مغلوطة، إذ استمرت الكتابة في هذا الاتجاه حوالي قرن ونصف القرن من بعده.
في كتابه "الرشدية عند الجابري... ابن رشد في فكر محمد عابد الجابري"، الذي صدر حديثاً عن "دار البيروني"، يعود الباحث الأردني أحمد فايز العجارمة إلى الاهتمام الزائد بالفيلسوف الأندلسي لدى عدد من المستشرقين، معتبراً أن تقبّل ابن رشد في الثقافة العربية قد طُبع بهذا الفهم الاستشراقي.
يلفت المؤلّف إلى بعض المفكرين العرب الذين تصّدوا لفلسفة صاحب "جوامع كتب أرسطاطاليس" على مستوى الفهم، وخصّصوا جزءاً من جهودهم لتصحيح الفهم الخاطئ لها، بل تعدّت محاولاتهم إلى توظيف مفاهميها لتأسيس نهضة عربية مأمولة، أو إصلاح منشود.
يختار العجارمة نموذجين فكريّين كمدخل لدراسة الجابري، أوّلهما المنظّر والباحث المصري محمود قاسم (1913 - 1973) الذي ذهب في كتابه "ابن رشد الفيلسوف المفترى عليه" (1952) إلى تبيان أصالة صاحب "المسائل" الذي لم يكن مجرّد شارح لأرسطو، كما تؤكّد عليه المرجعيات الغربية، من حيث اختلافهما في كثير من المسائل مثل تعريف النفس، ووحدة النفس، ووحدة العقل، وكذلك في افتراقه عن غيره من الفلاسفة المسلمين والمتصوّفة.
وثانيهما المفكّر اللبناني فرح أنطون (1874 - 1922) الذي وضع كتاب "ابن رشد وفلسفته" في سياق بحثه عن السند الذي يدعم أطروحاته في العلمانية والحرية والتسامح وموقع العقل من حياتنا ككلّ، وحاول أن يوظّف أفكاره في سبيل بناء الدولة المدنية التي أساسها المواطنة وسيادة القانون.
يطرح العجارمة مسوّغات الجابري للعودة إلى ابن رشد اليوم، كونه ممثّلاً للتراث العقلاني الحي في الحضارة الإسلامي، ويمكن بالتالي الارتكاز عليه لتحقيق النهضة، في مقارنة بين ما تمثّله الرشدية بالنسبة للفكر العربي وما تمثله الديكارتية في الفلسفة الغربية، إضافة إلى كونه مناهضاً للاستبداد، ما يجعل منه فكراً راهناً وضرورة معرفية.
يتحدث الجابري، بحسب الكتاب، عما سماه أزمة الفهم للنص الرشدي، من ذلك أن كل الطبعات المتداولة للنصوص الرشدية، تعاني - ولو بدرجات متفاوتة - مما وصفه الجابري بانعدام توخّي الدقة في وضع علامات القراءة من فواصل ونقط وعودة إلى السطر تجعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل، استخلاص معنى العبارة.
كما أشار صاحب "نقد العقل العربي" إلى أن الجميع انساق إلى الدعوى القائلة بأن ابن رشد يوفّق بين الدين والفلسفة في كتبه، إذ أن مقصده كان شيئاً آخر. فرغم أنه يؤكد فعلاً توافق، وعدم تعارض الشريعة الإسلامية مع الفلسفة - وهذا غير التوفيق- ولكنه يركز على قضية أساسية عنده، وهي أن التعارض قائم فعلاً بين الخطاب الذي تمثّله الفلسفة، والخطاب الجدلي السفسطائي الذي اعتمدته الفرق الكلامية التي لم يكن هدفها بناء الحقيقة، وإنما التأثير في الخصم، وهدم آرائه ومعتقداته، وهو ما أضر بالحكمة والشريعة معاً.
يوضح الكتاب أن رشدية الجابري تميّزت بجمعها بين مستويي الفهم والتوظيف ضمن مشروع واحد يصحّ أن يُطلَق عليه مشروع تصحيح الصورة السائدة في الفكر العربي عن ابن رشد وفلسفته، وأن هذا المشروع مسكون من أوله إلى آخره بهمّ نهضوي يبحث صاحبه، من خلال التنقيب في تراثه، عن إجابات لسؤال النهضة والتقدم.