تركّزت معظم دراسات الأدب حول الأندلس على معاينة الصلات الوثيقة مع ما أنتجه كتّاب المشرق على مدار مئات السنين، بين مقولات جاهزة تضعه في خانة التقليد والمحاكاة أو تؤكّد على خصوصية التجربة والابتكار على أصعدة الأسلوب والموضوع واللغة. لعلّ من أبرز العوامل التي شكّلت اختلاف الأندلس الثقافي هو الاختلاط اللغوي بين قوميات متعدّدة في جغرافيا بعيدة عن مركز السلطة الإسلامية وقتها، ما ساهم في توليد فنون جديدة كالموشحات والزجل تضمّنت مفردات من اللهجات الدارجة آنذاك.
يستكمل الباحث العراقي محمود شاكر محمود في كتابه "الهوية الأدبية الأندلسية.. دراسات نقدية" الذي صدر حديثاً عن "دار الشؤون الثقافية" في بغداد مشروعه الذي بدأه في دراسته "شعراء أندلسيون نقاداً" (2002) وتتابعت في أعمال لاحقة ضمن محاولة لفهم الخطاب السياسي في التعبيرات الفنية في الأندلس.
ويحدّد المؤلّف مفهوم الهوية والمصطلحات المرتبطة بها من خلال قراءة مجموعة من النصوص التي أحدثت نقلة كبيرة في استقلالية الأدب الأندلسي من خلال تبيان خصائصه التي تفترق عن غيره، سواء من حيث التحقيب الزمني أو التقسيم الجغرافي.
في هذا السياق، يبرز كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لصاحبه ابن بسام بتحقيق إحسان عبّاس الذي استند إليه محمود في بحث سابق نُشر عام 2007 حول نشأة الثقافة الأندلسية وتحوّلاتها ضمن عدة أقسام، أهل قرطبة وما يجاورها، وأهل الجانب الغربي من الأندلس، وإشبيلية وبلاد ساحل المحيط، وأهل الجانب الشرقي، والشعراء والكتّاب القادمون من أفريقيا والشام والعراق.
التصنيف يمايز بين مناطق ثلاث وكذلك أعلام المشارقة الذي أقاموا في غرناطة وقرطبة وطليطلة وغيرها خلال القرنين الحادي والثاني عشر، وهي المرحلة التي تكرّست فيها فوارق واضحة في الأدب والفنون والمجتمع عن نظيره في المشرق.
يذهب المؤلّف إلى دراسة نصوص مختارة تبرز ملامح محدّدة أهمّها التجديد في الصورة التي نشأت نتيجة التفاعل مع البيئة ومظاهرها وتصوير الطبيعة وانزياح الألفاظ التي تعبّر عن استخدامات خاصة في اللغة، كما تدل عليه قصائد ابن دراج، وابن زيدون، وابن عمّار الأندلسي، والمعتمد بن عباد، وابن عبدون، وابن حمديس الصقلي، وأبو الصلت الداني، وابن خفاجة، والأعمى التطيلي، أو كتابات ابن شهيد، وأبي حامد الغرناطي، وابن برد النثرية.
أركان الهوية الثقافية الأندلسية المكتملة، بحسب محمود، تقوم على ثلاثة عناصر، هي: الأدب الذي قدّمه هذا الكتاب، والنقد الذي أفرد له مؤلّفاً سابقاً، والبلاغة الأندلسية التي تستدعي دراسة منفصلة للوقوف عند التغيّرات في الخطاب، والبنية الفكرية والفلسفية للتعبيرات الأدبية والفنية.
يضمّ الكتاب باباً للنثر وآخر للشعر أخضعت فيه نصوصهما إلى قراءة حديثة وفق السياقات الأكاديمية المعتمدة، استنبط الباحث في ضوئها كثيراً من الخصائص الأدبية التي يختص بها الأدب الأندلسي.