صاغ الأديب واللغوي اللبنانيّ سعيد الشّرتوني (1849 ــ 1912) مُعجمَه: "أقربُ المَوارد في فُصُح العَربيّة والشّوارد" في سنة 1889، وقد صدّره بمقدّمة وسبعة مقاصد (أيْ: مباحث لغويّة). ثم أضاف إليه جزءًا ثانيًا ضمّ المصطلحات العلميّة التي ظهرت في عَصره، وكذا سائرَ المُفرَدات المُولَّدة والأعلام، وخَتمهما بِذيْلٍ أو تَكمِلة، سنة 1893، عاد فيها إلى تصحيح الأخطاء المطبعيّة التي وقع فيها ضمن الجزئيْن السّابقيْن. وكان قد ألّفه، كما ذكر في "التمهيد"، استجابةً لرغبة الآباء اليسوعييّن الذين رَأوا، وهم مِن ذَوي التربية المحافظة، أنَّ المعاجم العربيّة القديمة حافلة بالكلمات البذيئة وحتّى الفاحشة، فصاغ هذا المعجم بدافعٍ من هذه الحساسيّة الأخلاقيّة، فلم يذكر فيه أيّة كلمة من السجلّ الممجوج، في عمليّةٍ تطهيريّة للمفردات الحاملة للدّلالات "السوقيّة".
وقد رتّب صاحب "حدائق المنثور والمنظوم" معجمَه هذا حسب الطريقة الحديثة، وهي ردّ الكلمات إلى جذورها الثلاثيّة، ثم تفريع المشتقّات الاسميّة والفعليّة. كما أنه أضاف إلى عمل الأسلاف، الذين اتكّأ على مصادرهم، تقديمَ سيَر الأعلام والمشاهير، ولكنْ بإيجاز شديدٍ، كما توقّف لدى أسماء النّبات والحيوان والأماكن والمعادن، من دون أن يذكر، كما وعَد بذلك في مقدّمة الكتاب، مقابِلاتها من اللغات الأجنبيّة.
هذا وتعكس المقاصد السبعة ــ التي مهّد بها الشرتوني لكتابه ــ المشاغلَ اللغوية التي كانت تعتمل في ذهنه وقتَها، مثل قضايا التوليد والدارجة والمُعرّب والأصيل ومعايير الصحّة اللغوية ومقاييس الإعراب والفصاحة، فضلًا عن القواعد التي اتّبعها في وضع قاموسه والانتقاء من بين عبارات الأقدمين الصيَغ الأسهل والآنَق، علاوةً على ذكر الدّواعي التي حَثّته على تكبّد مشاق هذا التأليف.
حذفُه بعض الكلمات يخفي قسماً من منظومة القيَم في مجتمعه
ومن المشروع أن نتساءل عن الطور التاريخيّ الذي تنتمي إليه عربية هذا المعجم ومعاني كلماتها؟ إذ الظاهرُ من إنجاز هذا العمل أنّه هَدف إلى جمع كلّ معاني الضاد الفصيحة والإحاطة بها، إلّا أنّ هذا العُنوان خدّاع، فالمعاني الموسومة في "أقرب الموارد" لم تعد كلّها شائعةً ولا حتّى مستخدمة، كما أنّ المعاني الجديدة، التي طرأت في عصر النهضة العربيّة، لم تُسجَّل بإزاء المُفردات القديمة. ومثال هذه النزعة المحافظة، كلمة "قانون"، التي صارت تدلّ، منذ القرن السادسَ عشر، على القاعدة القيمية وعلى المَجلاّت القانونيّة الوضعيّة التي تحكم من خلالها الدّولة وسلطاتُها التشريعيّة المواطنين، حيث يُعرّفها، جريًا على تعريف أسلافه من اللغويين العرب القدامى، بكونه: "أصل الشيء ومِقياسه العام".
وهذا بعضٌ من المنهج الذي التزم به الشّرتوني، الذي حافظ على عبارات الأقدمين في التعريف، حتى في الكلمات التي اكتست دلالات جديدة، ولكن مع شيءٍ من التّيسير والبَسط وترك الصيغ المعقّدة التي كان يخطُّها القدماء، فضلاً عن إسقاط الكثير من الشواهد، ولا سيما الدينيّة، لأنه كان يتوجّه إلى جميع فئات القراء، على اختلاف طوائفهم وأعمارهم ومستوياتهم.
وهكذا، فقد لَعبَ هذا القاموس وظيفةً تبسيطيّة للتعاريف الجافّة الوعرة التي كانت تَحفل بها المعاجم الكلاسيكيّة، وهو مَقصد الشرتوني الذي عبّر عنه بالقول: "مُساعدةُ المطالعين على كسب الوقت والمرور سريعًا إلى المعنى المنشود"، ممّا يَشي بظهور نزعة تربويّة تُرقّي فئات الشباب وتساعدهم على تحقيق التقدّم الذهني والرقي الروحيّ المنشودَيْن.
ويدفعنا هذا الأثر إلى تساؤل ألسُنيّ أشمل، وهو: ما الذي يَجعل لفظةً ما تتحوّل من منطقة المحايد إلى المبتَذل والسّوقي وحتّى الفاحش؟ هل ثمة عوامل ومقاييس موضوعيّة يمكن رصدها، من أجل قيس درجة مقبوليّة المفردات أو رفضها بذريعة انتمائها إلى سجلّ الممجوج والبذيء؟ ثم هل يمكن أن نلحق الشتائم الأخلاقية والطائفيّة، وحتى المِهنيّة التي برزت حديثًا، بهذا السجلّ ونقرّر، على ضوء ذلك، حذفَها من متون المَعاجم؟
واحد من روّاد النهضة الذين سعوا لإخراج الضاد من جمودها
نذكر فقط أنّ هذه القضية خاض فيها ابن سنان الخفاجي في "سرّ الفصاحة". ورغم أننا لا نشكّك في أخلاقيّة هذا التمشّي، في عصرٍ كان فيه "الحياء الشرقيّ" مُهيمنًا ــ ولا سيّما لدى جُمهور "الناشئة" الذي يَتوجّه إليه الكتاب ــ نظنّ أنَّ هذا الحذفَ يُخفي قسمًا من منظومة القيَم الأخلاقيّة التي تحكم المجتمعات العربيّة ومدى التحوّلات التي شهدتها، والخوف من ظاهرة "الانحلال الغربي".
ولعلّه من الطبيعي أن يكون معجمًا بهذا الحجم قد ضمّ بعض الهِنات والأخطاء في الضبط أو الشرح أو النقل، وهو ما عابه محمد جميل الخاني في مقالٍ كتبه بعد عقودٍ من صدوره. ومع ذلك يظلّ "أقرب الموارد" موردًا قريبًا جمعَ مفردات الضاد وبَسط معانيها للقرّاء، فاندرَج بذلك ضمن الهمّ التربوي الذي حملتْه حركة النهضة العربية، التي كان الشرتوني من بين روّادها المَنسيّين الذين طوّعوا الضاد حتى تكون أداةً للخروج من الجمود ووسيلةً تُعبّر عن الراهن أكثر من انشدادها إلى الماضي. ولذلك سنقرأه اليوم وفي الخاطر صورةُ هذا العَلَم عاكِفًا على المخطوطات العزيزة والمطبوعات المرهقة النادرة، يجعل الضّاد أطهر في كلِماتها، وأقرب إلى الناشئة وإلى روح العصر، حتى وإن ضَحّى بما يعتبره ساقطًا من كَلماتِها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس