"أنبياء الأهوار"، الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" (2021)، هي روايةٌ، كما تقدّم نفسها، وليست برواية في الوقت نفسه. أولى مفارقات هذا الكتاب تقع في عنوانه: "أنبياء الأهوار". يوحي العنوان بأن موضوع الكتاب أو الرواية هو الأنبياء الذين قامت نبوءاتهم في منطقة الأهوار العراقية، وهذه، كما نفهم، منطقة مغطّاة بمياه ضحلة تحيط بقُراها، وهي لذلك نوعٌ من فينيسيا عراقية، ينتقل الناس فيها بقوارب صغيرة تُسمّى في لهجة أهل الأهوار "مشاحيف".
لسنا هنا في أرض النبوءات. ولسنا وحدنا مَن يعلم ذلك، فالعراقي نعيم عبد مهلهل، مؤلّف الرواية، لا يغفل عن ذكره. ليست الأهوار فلسطين، ولم يطأ أرضها نبيّ. ليس لها نبيٌّ خاصّ إلّا ذلك النبي الذي لا نعرف له موطناً، والبلاد جميعها ــ والأهوار منها ــ مَواطن له. أنبياء الأهوار إذاً ليسوا من الأهوار ولم يعرفوها، فكيف حمل الكتاب هذا العنوان؟ هذه واحدة من مفارقات الكتاب وليست الوحيدة، فالنصّ عامرٌ بالمفارقات.
الراوي هو تقريباً الشخصية التي تتقاطع عندها نصوص الكتاب، بل هو الشخصية الوحيدة التي نعرف لها سيرة؛ فهو المجنّد الذي خاض الحرب العراقية الإيرانية، وهو أيضاً المعلّم الذي درّس في مدارس الأهوار. إنه الشخصية الوحيدة، وسواه هم معارفه وذكرياته. لا يكفّ الراوي عن أن يسمّي، في شتّى فصول الكتاب، ما يؤلّفه برواية، بل نكاد نفهم أن كلّ فصل هو بحدّ ذاته رواية.
مع ذلك لا نزال نتساءل أين هي الرواية في الكتاب الذي يتتبّع أسماء الأنبياء كما ترد في النص القرآني، لا ليروي سيَرها، فهي ليست من الأهوار وليس لها سيَر فيها. نحن هنا لا نقف عند مفهوم ضيّق للرواية، فالسرد هو الذي يميّز الرواية، وقد يكون مبحثاً فلسفياً أو مقالة نظرية. مفهوم الرواية لا يزال يتّسع بحيث أنها تكاد تشمل كلّ سرد، مهما كان أمره وطبيعته. لا نجادل في ذلك، وإن استلفتَنا إصرارُ الراوي على أن ننوّه، في فصول شتّى، برواية فيها لا نعثر عليها بسهولة. مع ذلك، فإن خطّة الكتاب قد تؤدّي إلى الرواية، إذا كان مُراد الكاتب.
لا نعثر في الكتاب إلّا على شخصية وحيدة هي شخصية الراوي، الذي قد يكون المؤلّف نفسه. نتابع الراوي وهو يتوقّف عند أنبياء القرآن واحداً واحداً. لا يفعل الراوي ذلك ليجعل من الأنبياء وسيَرهم موضوعه، أو ليعيد رواية أخبارهم كما هي في القرآن، مرجعه شبه الوحيد، وإن كان يلتفت أحياناً الى التوارة حين لا يجد في القرآن ما يكفي لروايته. يمرّ الراوي ـ المؤلّف على أسماء الأنبياء أكثر ممّا يمرّ على سيَرهم. إنهم كذلك أسماءٌ نورانية سماوية، أمّا مكانهم على الأرض، في الأهوار، فهو بشكل عام في أسماء الأهواريّين الذين تسمّوا بأسمائهم. روايتهم على الأرض هي هؤلاء الأشخاص الذين انتسبوا إليهم بالأسماء، ولهؤلاء حياةٌ وسيَر وأخبار.
إنّهم معارف الراوي، والراوي يتابعهم حتّى بعد أنْ تنقطع صِلته بهم. يتابعهم في مواطنهم الجديدة، ويغلب على هؤلاء، لأمر يخصّ الراوي ـ المؤلّف، أن يلاقوا المنيّة في المعركة أو في سواها. الراوي هكذا يضع لهم نهاياتٍ وخواتيمَ. إنهم على الأرض وإن كان مَن تسمّوا بهم في السماء. هكذا تكون الرواية في السماء كما على الأرض. هكذا تكون، في واقع الأمر، سيَر أسماء، لكنّ أسماء الأنبياء غير الأسماء الأخرى. أسماء الأنبياء تملك بحدّ ذاتها طقساً وكياناً وحياة. أسماء الأنبياء ومُسَمَّوْهُم على الأرض هي روايةُ ما بين الأرض والسماء، رواية المقدَّس في السماء وعلى الأرض.
لذا، لا تحتاج الرواية إلى أكثر من الأسماء التي وحدها تملك حياةً كاملة، كما تملك حضوراً كاملاً. المقدّس هو الاسم وحده، والاسم هو أيضاً حياته وروايته الكاملة، بل هو كافٍ ليكون طقساً ويكون مقاماً ويكون حياةً.
هكذا، نتابع الأسماء المقدّسة وهي على الأرض، فكأنّ رواية نعيم عبد مهلهل هي هذا الوسيط، هي هذا السلّم بين الأرض والسماء. هكذا نفهم أن الرواية الحقيقية موجودة في الاسم. نفهم أنها ليست ما نقرأه بل ما خلفه. الرواية هي ما وراء الرواية. ربما لذلك لا يكفّ نعيم عبد مهلهل عن أن يذكّرنا بأنّنا مع الاسم في وسط الرواية، وأن المقدّس، الاسم الذي يتوالى حادثاً بعد حادث، لا يكفّ عن أن يَروي.
* شاعر وروائي من لبنان