تشهد السنوات الأخيرة حضوراً مصرياً متزايداً في شوارع تيرانا؛ مع تدفّق السيّاح من القاهرة إلى ألبانيا بعد إلغاء التأشيرة المُسبقة، الذين يكتشفون بلداً مختلفاً يجمع بشكلٍ ما بين الشرق والغرب ويتّسم بالتسامح. والأهم من ذلك كون الوجود المصري المتزايد أصبح يُذكّر من جديد بالصِّلات القديمة بين ألبانيا ومصر، التي كان يقصدها الألبان من عسكريّين وحِرفيّين ورجال أعمال خلال حكم محمد علي باشا وسلالته في مصر (1805 - 1952).
وفي هذا السياق بقيت مصر تعترف بالملك أحمد زوغو ملكاً شرعياً بعد وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم في خريف 1944، وحتى أن الملك زوغو اتّخذ من الإسكندرية مقرّاً لإقامته، وتجميع أتباعه من سياسيّين وعسكريّين للإعداد لـ"تحرير ألبانيا من الحكم الشيوعي"، إلى أن سحب النظام الجديد منه صفته الدبلوماسية ليغادر مصر عام 1955. ولكنّ الوجود الألباني بقي في مصر، سواء مع بقايا الجالية الألبانية، أو مع الوجود الجديد لـ"جمهورية ألبانيا الشعبية"، التي كانت سفارتها في القاهرة شبه الوحيدة في العالم العربي حتّى التحوّل الديمقراطي في ألبانيا في نهاية عام 1990.
في غضون ذلك كان الاهتمام الأكاديمي والثقافي الألباني يتزايد بمحمد علي باشا، وتجربته وسلالته التي حكمت مصر خلال (1805 - 1952)، وخاصة مع إعادة الاعتبار في مصر إلى محمد علي، وسلالته التي وصلت إلى ذروتها في سنة 2005 مع ذكرى مرور 200 عام لوصول محمد علي إلى الحكم، التي حفلت بالندوات العلمية والمحاضرات والمعارض، ونشر عشرات الكتب الجديدة والقديمة عن "مؤسس مصر الحديثة" وعن حكم سلالته في مراجعة موضوعية.
مصر في ألبانيا
توافق تنظيم "الأسبوع الثقافي المصري" من 19 إلى 25 أيلول/ سبتمبر الجاري، مع التوجُّه الجديد للحكومة الألبانية، نحو السياحة الثقافية التي جعلت ألبانيا جهة سياحية جاذبة، ومن ذلك تنظيم أسابيع ثقافية للدُّول التي أصبح لمواطنيها حضورٌ سياحي في أرجاء ألبانيا. فقد جاءت التظاهُرة فور انتهاء الأسابيع الثقافية لإيطاليا، واليونان، وإسبانيا، والسويد، وهي مناسبة للمقارنة بين هذه الأسابيع. فقد كان "الأسبوع الثقافي المصري" أوّل لقاءٍ يعرض الثقافة المصرية على الجمهور الألباني بعد طُول انقطاع.
وقد أحسن الجانب المصري في تمثيل الثقافة المصرية بما يتناسب مع اهتمام الجمهور الألباني، حيث بدأ الأسبوع يوم الاثنين 19 أيلول/ سبتمبر، بأُمسية موسيقية كلاسيكية مع مُغنّية السوبرانو أميرة سليم بحضور وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني ووزيرة الثقافة الألبانية إلفا مارغريتي. بينما تضمّن اليوم الثاني مفاجأة من الجانب الألباني حيث عرضت "المكتبة القومية في تيرانا" مختارات من نسخة نادرة لديها من كتاب "وصف مصر" الذي وضعته البعثة العلمية المصاحبة للحملة الفرنسية على مصر. ويبدو أنّ هذه النسخة الثمينة وصلت إلى "المكتبة القومية" خلال الصّلات الألبانية - المصرية المميّزة في النصف الأول للقرن العشرين.
الأدب المصري في السينما
تضمّن الأسبوع الثقافي ثلاثة أفلام: "الفيل الأزرق" عن رواية وسيناريو أحمد مراد وإخراج مروان حامد (2014)، وفيلم "بتوقيت القاهرة" من إخراج أمير رمسيس (2015)، وفيلم "تراب الماس" عن رواية وسيناريو أحمد مراد وإخراج مروان حامد (2018). ونظراً لكونه كاتب هذه الأفلام، ولأنّ روايته "الفيل الأزرق" فازت بـ"جائزة البوكر للرواية العربية" (2014) فقد حضر مراد للحديث عن "الأدب المصري المعاصر" في الندوة التي أُقيمت يوم الخميس الماضي في "المركز القومي للكتاب".
ومع أنّ الاهتمام الألباني بالأدب المصري يعود إلى نهاية الخمسينيات، وخاصة بالكاتب محمود تيمور الذي صدرت له بالألبانية مجموعة قصصية بعنوان "الحاج شلبي وقصص أخرى" (1968)، ثم بعض مؤلّفات نجيب محفوظ، إلّا أن اللقاء اقتصر على شهادة الكاتب أحمد مراد عن تجربته كمصوّر صحافي للرئيس الراحل حسني مبارك، التي استفاد منها لاحقاً في روايته عن الفساد في مصر خلال عهده. ومع النقاش الذي دار حول ذلك، أوضح مراد أنّ عهد مبارك الطويل كان ينقسم في الواقع إلى عهدين مختلفين: الأوّل الذي كان فيه واعياً إلى دوره في بناء دولة راعية، والثاني بعد وفاة حفيده في 2009 الذي جعله بعيداً عن الواقع في المجتمع والدولة، وهو ما عنونت به الجريدة الألبانية الأولى "بانوراما" تغطيتها للندوة .
ولكن وجود أحمد مراد المهمّ كان يمكن أن يفيد أكثر في حضوره لأحد أفلامه، كما كان الأمر في "الأسبوع الثقافي السويدي". غير أن الجانب الألباني للأسف لم يخصّص للأفلام المصرية ما يليق بها، حيث أن دار العرض "ريّا" (الغيمة) ليست مناسبة أبداً، ولذلك لم يتجاوز الحضور عشرة أفراد خلال عرض "الفيل الأزرق"، و"بتوقيت القاهرة"، على حين أن الأمر كان يمكن أن يكون مختلفاً لو أن ّالأفلام عُرضت في دار سينما "ميلينيوم" الموجودة في نفس الشارع (شارع القلعة).
يومٌ لمحمد علي باشا
نظراً للدور المركزي الذي لعبه محمد علي باشا في الصلات الألبانية - المصرية، فقد كان من الطبيعي أن يكون حضورُه بارزاً في "الأسبوع الثقافي المصري". وقد أحسن الجانب المصري في اختيار أحد المؤرّخين المتخصّصين في عهد محمد علي باشا وسلالته، وهو الباحث أحمد غُباشي رئيس قسم العلوم الإنسانية في "جامعة هليو بوليس"، الذي كانت رسالته للماجستير وأطروحته للدكتوراة عن ذلك.
ومن هُنا يمكن القول إن يوم الخميس 23 أيلول/ سبتمبر كان "يوم محمد علي باشا"، حيث إن الباحث غُباشي ألقى محاضرة في قسم التاريخ بـ"جامعة تيرانا" عن "العلاقة بين مصر وألبانيا"، وألقاها مرّة أُخرى من اليوم نفسه في "معهد التربية والتراث والسياحة"، الذي امتلأت صالته بالحضور من ألبانيا وكوسوفو المجاورة، حيث حظي محمد علي بسيل من الدراسات والكتب عنه. وفي هذا اللقاء الذي حضره السفير المصري محمد حيدر، وأداره مدير المعهد رامز زيكاي نجح غباشي في عرض مشوّق للجُمهور بالصوت والصورة، في استعراض أهمية وصول محمد علي إلى الحكم عام 1805، وفي تأسيس نظام حكم مختلف يقوم على ثلاثة أركان: الجيش والتعليم والاقتصاد، وهو ما مكّنه من أن يحوّل مصر إلى قوّة إقليمية تتغلّب على جيوش السُّلطان، وتأسيس سلالة حاكمة بقيت تحكم مصر حتى عام 1952.
يلعب محمد علي باشا دوراً مركزياً في التواصل بين البلدين
وفي هذا السياق التاريخي نمَت الجالية الألبانية في مصر، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول للقرن العشرين حتى أصبحت الجالية الخامسة بعد الإيطالية واليونانية والإنكليزية والفرنسية. ولكن ما يميزها هنا، كما أوضح غباشي، كان دور هذه الجالية في النهضة القومية الألبانية التي سعت إلى استقلال ألبانيا عن الدولة العثمانية، وهو ما تحقّق عملياً في ربيع عام 1914، مع توافُق الدول الأوروبية الكبرى على اختيار النبيل الألماني فيلهلم فون فيد ملكاً على ألبانيا.
وقد كشف غباشي هنا عن أمر غير معروف، ألا وهو أن ملك ألبانيا قد قدّم نيشان "النسر الأسود" الذي استحدثه آنذاك إلى الخديوي عباس حلمي الثاني من العام نفسه، وهو ما يُثبت استمرار الصّلة بين ألبانيا والسلالة الألبانية في مصر مع العِلم أن الأمير فؤاد (الملك فؤاد لاحقاً) كان في 1913 أقوى مرشّح للعرش الألباني، ولكن مشيئة الدول الأوروبية مالت إلى النبيل فيد لكونه بروتستانتي لا ينتمي إلى الأديان الموجودة في ألبانيا (الإسلام والأرثوذكسية والكاثوليكية).
وأخيراً لا بدّ من التنويه إلى أن "الأسبوع الثقافي المصري" كان حدثاً ثقافياً جاء في وقته؛ ليشمل كلّ المجالات الثقافية بما في ذلك الفنّ البصري والموسيقى الشعبية، ويجذب جمهوراً يُقدِّر العلاقة التاريخية والثقافية مع مصر، ويرتاح الآن إلى عودة الصلات مع مصر التي تتمثّل بالسياحة التي تقرّب بين الشعوب. ومع أن بعض النشاطات المذكورة أُقيمت في مدينة جيروكاسترا جنوبيّ ألبانيا، إلا أنّه كان من المفروض أن يكون بعضها في العاصمة التاريخية لألبانيا شكودرا، التي كانت مقرّاً لباشوية شبه مستقلّة تشمل ألبانيا الشمالية في النصف الأول للقرن التاسع عشر، وجسراً للعلاقة بين حاكميها مصطفى باشا ومحمد علي باشا، ومركزاً لجماعة مصرية صغيرة من العُلماء كان من بينهم الشيخ حسن العطار الذي اختاره محمد علي باشا شيخاً للأزهر!