منذ قرنين، وبموازاة تغلغل الرأسمالية في العالم، أصبح العمل الإنساني نوعاً من التعويض يتيح إحداث توازن مع العقلية النفعية التي تتسم بها الشركات الرأسمالية، وكان في بداياته يعتمد على مشاعر الإيثار وحب الخير لا أكثر. أما بعد تأسيس النظام العالمي الجديد بنهاية الحرب العالمية الثانية، وفي إثر الدعوة إلى عالم خالٍ من الحروب والصراعات، فقد كان من الضروري إنشاء إطار مؤسسي تنتظم فيه الدول ذات السيادة، بدءًا باستبدال عصبة الأمم بمنظمة الأمم المتحدة وما تبعها من مؤسسات ووكالات.
لكن الطبيعة الإنسانية تبقى متفاوتة، فلم تنتهِ الحروبُ والصراعات، وبقيت مجتمعاتٌ ودولٌ في حاجة إلى المساعدة، إذ لا تستطيع مواجهة الكوارث الطبيعية والحروب المدمرة بنفسها. لذا، صارت حوكمة العمل الإنساني ضرورة وحاجة، وكذلك المهنية في العمل الإنساني، ما أحدث تغيّرًا في اختصاص العاملين الإنسانيين.
"العمل الإنساني: الواقع والتحديات" كتاب صدر مؤخراً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" للباحث غسان الكحلوت، وهو عمل يعمل على تَبْيئَة العمل الإنساني كحقل أكاديمي جديد في العالم العربي.
يتألف الكتاب من ثمانية فصول. في الفصل الأول، "الكارثة، النزاع، الطوارئ المعقدة"، يؤسس المؤلف للخطوط الرئيسة في مجالات العمل الإنساني، بدءًا بمفهوم الكارثة بشقيها الطبيعي والإنساني، ويبين أنواعها من حيث نطاقها وتكرارها، وسبل إدارتها، والتعامل مع ظروفها. ثم يستعرض المفاهيم الأساسية للنزاعات والصراعات، ومستوياتها المتعددة، وأدوات تحليلها، وما يرتبط بها من عنف وتدمير، إضافة إلى آراء المفكرين والمدارس النظرية بمواضيع الحرب وعوامل ظهورها واختفائها، وكيفيات تسوية النزاعات والتدخل لإنهائها.
أما في الفصل الثاني، "التطور التاريخي للعمل الإنساني: من معركة سولفيرينو إلى القمة العالمية الإنسانية بإسطنبول"، فيؤرخ المؤلف العمل الإنساني، بادئًا بعرض مقدمات تاريخية للنشاطات والأفكار الإنسانية، ثم يبيّن التطور التاريخي من عصر الإمبراطوريات الاستعمارية وما شهده من حروب استخدمت خلالها قوى الاستعمار آنذاك الأعمالَ الإنسانية لتحقيق مآربها، ثم المرحلة التأسيسية الأهم لحياة الإنسانية في أواخر القرن التاسع عشر وما شهدته من بدايات تقنين العمل الإنساني. بعدها، شهد العمل الإنساني في القرن العشرين نموًا متسارعًا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحرب البيافرا، والحرب الباردة، والحرب على الإرهاب والربيع العربي في القرن الحادي والعشرين.
وفي الفصل الثالث، "مبادئ العمل الإنساني"، يقدّم الكلحوت الأطر المعيارية والقيمية التي تنبع منها الأفكار والفلسفة الإنسانية، والمبادئ التشغيلية وقواعد التوجيه والسلوك للعاملين الإنسانيين. ويتناول في الفصل الرابع، "الأطر القانونية للعمل الإنساني"، حيث يضيء أهم البنى القانونية والتشريعات التي حددت مجالات القطاع الإنساني ونطاقات عمله، والهياكل الرسمية المسؤولة عن تفسير وتطبيق الاتفاقات والمعاهدات الدولية والوطنية المرتبطة بمسائل التنظيمات الإنسانية.
وفي الفصل الخامس، "المعايير الإنسانية من أجل تحقيق الجودة والمساءلة"، يقدم المؤلف مجموعة من المبادرات والمقترحات التي أصبحت جزءًا رئيسًا من العمل الإنساني، مثل مدونات السلوك، والميثاق الإنساني والحدود الدنيا للمعايير. أما الفصل السادس، "حوكمة المنظومة الدولية الإنسانية"، فيُعنى المؤلف فيه بمجال فاعلي العمل الإنساني وأطرهم الهيكلية والمؤسسية، مركزاً على منظمة الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسة.
"تمويل العمل الإنساني" عنوان الفصل السابع، وفيه يعدّد المؤلف أنواع التمويل الذي يقدمه المانحون للمحتاجين. ويختتم الكتاب بفصل "التغييرات في المشهد الإنساني: الواقع والمستقبل"، وفيه يبيّن المؤلف بعض التغييرات حول مسائل تتعلق بتجريم العمل الإنساني، وارتباطاته بنشاطات الإرهاب والجريمة المنظمة، وغيرها من مظاهر الفساد الأخلاقي والمالي.