من وجهة نظر فلسفية، يمكن تمييز نوعَيْن من الروائيين: هؤلاء الذين يمكن عقْد نقاشٍ فكريّ مع أعمالهم، أو - بعبارة أصحّ ربّما - الذين تستدعي أعمالُهم الفلاسفةَ وتحفّزهم على الكتابة عنها وانطلاقاً منها، من ناحية، وأولئك الذين لا يحرّك سردُهم في الفلاسفةِ أسئلةً وأفكاراً، من ناحيةٍ أُخرى.
لا شكّ أن مارسيل بروست ينتمي إلى التصنيف الأوّل، إلى جانب روائيين مثل غوستاف فلوبير، وجيمس جويس، وروبرت موزيل، على سبيل المثال لا الحصر. فأعمال الروائي الفرنسيّ، ولا سيّما "البحث عن الزمن المفقود"، لم تتوقّف منذ عقود عن إثارة اهتمام الفلاسفة: من "بروست والعلامات" لـ جيل دولوز (1964) إلى "بروست: بين الأدب والفلسفة" (2013) لـ بيير ماشيري، مروراً بـ"بروست وأهوال الحب" (2008) و"مقالة حول الغيرة: الجحيم البروستي" لـ نيكولا غريمالدي.
حول هذا التاريخ بين الروائي الفرنسيّ والفلاسفة، تخصّص إذاعة "فرنسا الثقافية" (فرانس كولتور)، منذ عدّة أيام، سلسلة من الحلقات تحت عنوان "بروست والفلاسفة"، تُبَثّ ضمن برمجة واسعة تقترحها الإذاعة بمناسبة مرور قرنٍ على رحيل بروست (1871 - 1922)، وتستضيف فيها العديد من المتخصّصين في أعماله أو في أعمال المفكّرين الذين كتبوا حولَه.
بدأت السلسلة أوّل من أمس الإثنين بحلقةٍ حملت عنواناً يبدو مستفزّاً وغريباً للوهلة الأولى: "هل بروست فيلسوفٌ فاشل؟"، تحدّث فيها الناقد الأدبي لوك فريس، صاحب كتاب "انتقائية بروست الفلسفية"، حيث أشار إلى معارضة شخصيات بروست الروائية لعددٍ من المقولات الفلسفية الشائعة، مثل استحالة الوصول إلى جوهر الأشياء؛ كما عاد فريس إلى فهْم بروست لمفهوم المدّة، وقُربه من هذا المفهوم عند فيلسوفٍ مثل هنري برغسون، مذكّراً بأنه يمكن النظر إلى الروائي الفرنسي بوصفه صاحب أطروحةٍ فلسفية حول مفهوم الزمان، وهي أطروحة مكتوبة سردياً في روايته "في البحث عن الزمن الضائع".
وتوقّفت الباحثة آن سيمون، في حلقة الأمس، عند مقاربات كلّ من سارتر وموريس ميرلو بونتي وجيل دولوز لبروست، مذكّرة بانتقادات سارتر للروائي الفرنسيّ ولا سيّما في تعويمه العالَم الخارجي على حساب الجوّانية (التي عُرفت الفينومينولوجيا السارترية بمحارَبتها)، وبالتقارب الكبير بين أطروحات ميرلو بونتي المتأخّرة حول الجسد والمرئيّ واللامرئيّ، وبين الفلسفة الحِسّية التي يمكن تلمّسها في سرد بروست.
أمّا كتاب "بروست والعلامات" لدولوز، فترى سيمون أن الفيلسوف الفرنسي رغب فيه "خيانة" بروست عبْر اقتراح تحليلٍ مختلفٍ عن السائد لرواياته (كاعتباره روائيَّ السرعة والحركة، لا روائيَّ البطء والتذكُّر)، وعبر انتقاء تفاصيل قد تبدو ثانوية فيها، وهو ما تراه مختلفاً تماماً عن مقاربَتَيْ سارتر وميرلو بونتي.