"تاريخ غزة".. خروجٌ بالقارئ الفرنسي من التزييف

01 يوليو 2021
غرافيتي في غزة، 2011 (Getty)
+ الخط -

لا تُقصف غزة بالصواريخ وحدها، بل بالروايات المغلوطة أيضاً، وخصوصاً في الغرب، حين تُختزل في نقطة صراع صاخبة، أو مدينة ذات كثافة سكّانية عالية يحكمها "متشدّدون". فإذا كانت صواريخ جيش الاحتلال الإسرائيلي تجد ردّاً بأكثر من سلاح، فإن "القصف بالرواية" يظلّ في كثير من الأحيان بلا ردّ في الغرب، حيث تعمل الدعاية الصهيونية على وأد كلّ صوت يقف ضدّ وجهة نظر دولة الاحتلال، وبذلك يكون كلُّ عملٍ مضادّ لهذه الآلة محاولةً لاستعادة القارئ من براثن التزييف.

حين صدر كتاب "تاريخ غزة" في 2012، مثّل مفاجأةً للساحة الثقافية الفرنسية. عملٌ ضخم (يقع في أكثر من 500 صفحة) لباحث مشهود له بالكفاءة، هو جان بيير فيليو، ويكفي أن يلقي القارئ نظرة على فهرسه حتى يعرف عراقة غزّة. إذاً، ليست المدينة مجرّد شريط (التسمية الفرنسية Bande de Gaza، شريط غزّة) في الخريطة محاصر بين "العدوّ والبحر"، أو مجرّد عنوان يحضر بانتظام في أشرطة الأنباء. يقول فيليو - وهو يتوجّه إلى قارئ فرنسي - إن المدينة تحضر بانتظام أيضاً في كتب التاريخ؛ إنها إحدى المدن التي تؤثّث قلب العالم القديم؛ البحر الأبيض المتوسّط، ضمن شبكة اقتصادية - ثقافية كانت تربطها بروما والإسكندرية وأثينا وقرطاج وغيرها، إضافة إلى علاقة لا يمكن إغفالها مع القدس، باعتبارها مركزاً روحياً قديماً.

من البداية، أي من عتبات عمله (العنوان، كلِمة الغلاف، المدخل، الفهرس...)، يُسقط فيليو الكثير من الصور الجاهزة عن غزّة في العقل الجمعي الفرنسي. لقد أصبح الآن من الممكن أن يسرد حكايةً تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، حيث كانت غزة بحكم موقعها الجغرافي نقطةَ احتكاك بين الإمبراطوريات الصاعدة أو المهزومة في مصر وبلاد الرافدين وبلاد فارس واليونان، ثم اندمجت سريعاً في تاريخ جديد، بالصدفة ربما. فقد توفّي فيها هاشم بن عبد مناف، جدّ نبيّ الإسلام، فبدت مهيّأةً لِلَعبِ دورٍ في تاريخ الحضارة الجديدة الصاعدة، وهو تاريخٌ يذهب به فيليو إلى امتداداته في العصور الإسلامية المتعاقبة، وصولاً إلى الزمن العثماني الذي احتاج إلى إضاءات موسّعة، فبدونه لا يمكن فهم المحطة الموالية؛ "الانتداب" (الاحتلال) البريطاني، وضمنه سيبدأ الصراع الفلسطيني - الصهيوني على الأرض والتاريخ.

يُسقط الكثير من الصور النمطية عن غزة في المخيلة الفرنسية

يسمّي المؤرخ الفرنسي هذه الفترة التي تنتهي في 1947 بـ"غزة قبل الشريط"، وكأنه يعيد التأكيد أن المدينة التي لا تشبه أي مكان في عالم اليوم، كانت قبل ذلك مدينة ككلّ المدن؛ مدينة مفتوحة على البحر قبالتها ولها امتداد عريق في اليابسة، قبل أن يتعرّض هذا الامتداد لمحاولة قطع عنيفة أقدمت عليها العصابات الصهونية وأُغلِق البحر في وجهها.

في هذه الفترة التي يسمّيها فيليو "جيل الحِداد"، سيكون لغزة خصوصيات تصنع لها تاريخاً يختلف عن بقية المدن الفلسطينية، ففي حين أن القوة التدميرية للعصابات الصهيونية والحصار الذي فرضته، قد قطع الفلسطينيين عن العالم، كانت غزة تتنفّس عبر حبل سرّي هو جيرتها لمصر. وهو عاملٌ يفسّر الكثير من تاريخ "غزة بعد الشريط"، إذا جاز لنا التعبير، كأن تبقى محصّنة من الاحتلال المباشر (حتى العدوان الثلاثي في 1956)، وتُصبح المحطّة الرئيسية للّاجئين، ما سيخلق مجتمعاً جديداً، وبالتالي حقائق ديمغرافية وجيوسياسية مختلفة. كذلك يفسّر فيليو بهذا العامل كيف أصبحت غزة حاضنةً للمقاومة ذات المرجعيات الإسلامية.

تاريخ غزة

عبر "تاريخ غزّة"، يُقدّم المؤرّخ الفرنسي مجمل مسار القضية الفلسطينية، لينتهي إلى رأيٍ مفادُه أن هذا التاريخ (القريب منه خصوصاً) خلق لغزّة موقعاً خاصّاً تحكمه وضعية جيوسياسية مكثّفة لا يمكن الوصول إلى حلّ للاحتلال من دون فهمها، ومن أدوات هذا الفهم كتابة تاريخٍ علميّ لغزة. يفعل فيليو ذلك بلغة رصينة لا تنتصر لوجهة نظر بعينها، وهذه اللغة هي التي تحميه من منظومةٍ شرسة وضعتها الأذرع الصهيونية في فرنسا، بحيث يصعب الحديث عن القضية الفلسطينية بنزاهة، فإمّا الانتصار للاحتلال ــ وهو موقف يضع صاحبه ضدّ الضمير الإنساني والعِلمي أيضاً ــ، وإمّا تعريض النفس للتضييقات. الأمر يشبه إلى حدّ كبير واقعَ الناس في غزة، لو تمعّنّا، تلك الأنفس البشرية الكثيرة المحشورة في شريط صغير، وعليها أن تواصل الحياة وقول كلمة الحق.

دلالات
المساهمون