"حماقات بروكلين"، تحفة الأميركي بول أوستر ("دار المدى"، ترجمة أسامة منزلجي، 2012)، تردُّنا غير مرّة إلى عنوانها. يكفي أنّ راوِيتَها يعمل على إعداد كتاب عن "الحماقة الإنسانية"، ما يدعونا إلى أن نبحث في أخبار الرواية، ولدى شخصياتها، عن هذه الحماقة. لن نجدها فاقعةً ولا مباشرة، بل نحن مدعوُّون، خلال ذلك، إلى أن نفكّر في مفهوم الحماقة عند بول أوستر. ليست مفضوحةً ولا مُعلَنة، أي أنها ليست دارِجة، وليست سطحيّة أو سخيفة، كما قد يخطر لنا، بل هي أعمقُ من ذلك وأكثر تمويهاً. إنها مفهومٌ وموقع نجدهما في طيّ الحدث، وفي داخله ومعناه.
لن نعرف كيف تكون الحماقة فوراً في سلوك توم الذي لم يُكمل دراسة الطبّ، وعدَل عنها إلى سياقة السيارة، وبعدها إلى العمل مع هاري في مكتبته المميّزة. لن نعرف أيضاً كيف تكون الحماقة عند هاري المزدوج جنسياً، وإن يكُن أقرب إلى المثليّة. هاري هذا، الذي يعمل في حقبة من حياته راعياً لغاليري فنّي، يقع على فنّان مهمٍّ ويعمد، بعد غيابه، إلى تزييف لوحاته. الأمر الذي يُفضي به إلى السجن، لكنّه بعد خروجه منه يعمل على إنشاء مكتبة مُميّزة بنسخاتها الأولى، والموقّعة من كتّاب كبار. مع ذلك لا ينفكّ يحلمُ بإعادة المُجازفة، وهذه المرّة هي تزييفُ كتابٍ منسوب إلى ناثانيال هاوثورن هو "الحرف القرمزي".
هاري، الشاطر المحتال المغامر الجريء، لا يلبث أن يسقط ضحيةَ شطارته وضحية عشيقه الماضي المُتآمر عليه. أي يبدو أنه، وهو الشاطر، يتصرّف بقدر من السذاجة، ويسمح لمُحتالِين حقيقيِّين بأن يعبثوا به ويقودوه إلى الهلاك. سنكون هكذا أمام حماقة هاري الذي يظهر، مع ذلك، أكثر حرصاً وحصافة ممّا نظنّ. مع ذلك يستمرُّ الراوي في إعداد كتابه عن الحماقة الإنسانية، الذي نعرف صلته بالحوادث التي يمرّ بها، والتي أشرنا، أعلاه، إلى بعضها.
أين الحماقة في ولع الراوي بِنادلة، يقابلُه ولعُ ابن أخته توم بمُدرّسة، لا يفعل سوى أن يراعيها كلّ يوم وهي تصحب وَلدَيها إلى المدرسة؟ يحاول الراوي أن يوفّق بينها وبين ابن أُخته. يستوقفُها ويكلّمها، ويطلب من ابن أُخته أن يوافيه إليها، لكن ابن الأُخت الذي "يُضيعه الموقف"، يستعجل بالاستئذان ويتركهما معاً.
لا يعرض أوستر للحماقة كمفهوم سطحيّ، بل كأمر أكثر تمويهاً
أين الحماقة حين نعلم أنّ الراوي الذي أبلغته أنّها تشتغل بالمجوهرات، يشتري منها قلادةً ليهديَها الى ابنته، لكنّه حين يطلب من النادلة التي تسحرُه أن تجرّبها على عنقها، يفكّر بأن يهديها لها هي المتزوجة؟ هل الحماقة في طلبه منها، أن تترك القلادة في المطعم فلا يراها زوجها، الأمر الذي لا يتمُّ بالكامل إذ تنسى المرأة، وتعود بالقلادة إلى البيت حيث يتعرّف عليها زوجها، ويقوم بتهديد الراوي؟ أين الحماقة حين تصل لوسي، ابنة التسع سنوات إلى بيت خالها، الذي سافرت إليه وحدها بالقطار؟ تبقى أياماً صامتة ويحتار الراوي، وابن اخته، في أمر إيوائها، ويتّصلان بقريبة منفّرة لتستقبلها في بيتها، ولكن الفتاة تغافلهما، وتصبُّ عشرين زجاجة بيبسي في محرّك السيارة، الأمر الذي يعطّلها، ويفرض على الثلاثة البقاء في فندق في انتظار إصلاحها.
وصولُ الفتاة ذات التسع سنوات لا يبقى سرّاً، إذ نفهم تأثير زوج أمّها الذي ينتمي إلى كنيسة تحت سلطان داعية مؤثّر في رعيّته، بل الكنسية هي هذا التأثير. الداعية يعرض إخراج كلّ شيء حديثٍ من حياة أتباعه، التلفزيون والراديو والأدوات الصناعية. يأمرهم أيضاً بالعبادة بالصمت يوماً في الأسبوع. رغم ذلك، يحاول اغتصاب الأمّ التي تشكوه للزوج، الذي يتهمها بالكذب ويقوم بحبسها في غرفتها. ترسل الأم ابنتها إلى خالها توم، قبل أن يتسنَّى لها أن تهجُر بيتها وزوجها وتعود إلى أخيها وابنتها.
السؤال يبقى هو نفسه، أين الحماقة؟ لا جواب فورياً على هذا السؤال. لا نجد الجواب في حوادث الحكاية ومصائر شخصياتها التي لا تلبث أن تستقيل، إذ يقع كلٌّ منها على شريكه وقرينه. نرى الأشخاص يتعثّرون، لكنّ عثراتهم تكاد أن تكون هي نفسها ما يعرض للجميع. يتراءى لنا أن الحماقة هنا تتّصل بكلِّ شيء، بل تكاد تشمل الحياة كلّها. نفكّر أنّ الحماقة هي كذلك تعريفٌ للحياة، بل للوجود. نحن جميعاً حمقى، لأن الوجود هو بحد ذاته هذه الحماقة. كلُّنا حمقى، لأن الحياة ملعبُ هذه الحماقة، ولأنها معناها وطيّها وفحواها.
* شاعر وروائي من لبنان