"كان من الممكن أن يكون مع والده ليلةَ وفاته، لكن بطريقة ما، استحسن خوان ألفاريث ألَّا يفعلَ ذلك، ليس لأنَّه اختار أن يكون بعيداً في تلك اللحظة الحاسمة، بل لأنَّه واصل، بكلِّ بساطة، إتمام ما في يده دون أن يولي اهتماماً أو يحسب الرسائل المتتالية التي أرسلتها إليه أخته إيزابيل في الأسابيع الماضية عاجلة، إلى أن توقَّفت نهائياً عن إبلاغه بأيِّ شيء. غير أنَّ خوان، ثملاً برحيق الخث، ترجم ذلك الصمت بإيجابيَّة، مُعتبراً أنَّ الأمور قد تغيَّرت وسارت على نحو أفضل. وهكذا تابع عمله في رعاية شتلات شجرات الورد في الحديقة النباتيَّة لمدينة إدنبرة، في حين كان والده في المستشفى العامّ في طُليطلة، مفصولاً عن رفيقه في الغرفة بستارة واهية من القماش الخشن، وهو، أي خوان، على بُعد ألفين وأربعمئة كيلومتر شمال سريره، يجمع البتلات الساقطة على الأرضيَّة المظلمة".
بهذه المقدِّمة يُطلّ الكاتب الإسبانيُّ خيسوس كاراسكو على قرَّائه عبر روايته الجديدة، "خذني إلى البيت" (برشلونة، 2021) التي يروي فيها قصَّة من قصص عصرنا تدور أحداثها في مدارات العلاقات الأسريَّة، بحيث يمكن لقارئ الرواية أن يتعرَّف نفسَه، بحسبان أنَّها قصَّة يمكن أن تحدث مع أيِّ واحد منَّا. فجميعنا لدينا آباءٌ ندين لهم بأنفسنا، ولا سيما إن كبروا، نراهم في حاجة إلى مساعدتنا أو في الأقلِّ دعمنا العاطفيّ.
سيجد نفسه في المكان الذي كان قد قرَّر الهرب منه
وهذا ما يحدث لخوان وشقيقته إيزابيل، بطلَي هذه الرواية. تمكَّن خوان من الاستقلال بعيداً عن بلاده، لكنَّه أُجبر على العودة إلى بلدته الصغيرة في لا منشا بسبب وفاة والده. نيّته، بعد الجنازة مباشرةً، هي استئناف حياته في إدنبرة في أسرع وقت ممكن، غير أنَّ أخته إيزابيل، التي تعيش في برشلونة، والتي لطالما انتقدت عدم اكتراثه بأبويه المسنّين، تخبره أنَّه يتعيَّن عليها الانتقال إلى الولايات المتّحدة تلبيةً لعرض مهنيّ مهمّ قُدِّم لها. هكذا تتغيَّر حياة خوان إلى الأبد. دون أن يقصد ذلك، سيجد نفسه في المكان عينه الذي كان قد قرَّر الهرب منه، مجبراً على رعاية أمٍّ يكاد لا يعرفها ولا تعرفه تقريباً، ولا سيَّما بعد مرضها بالزهايمر، حيث يتقاسم معها شيئاً واحداً مشتركاً فحسب: سيَّارة الأسرة القديمة، رينو 4.
تتقدَّم حبكة القصَّة ناسجةً من التفاصيل اليوميَّة الدقيقة والهائلة سربالاً لها: الابن الذي يجد نفسه مجبراً على قبول تحمُّل المسؤوليَّة بتردُّد؛ الحزن على تدهور الوضع الصحيّ للأمِّ؛ تواصُل خوان مع صديق الطفولة القديم فيرمين؛ مقابلته لخيرمان، اليد اليمنى لوالده في النجارة. كلّ هذا سينفجر كقنبلة في رأس خوان، وستصل الأمور إلى ذروتها عندما تعانق امرأة والدته بشدَّة، فيتساءل خوان "مَن تكون والدتي؟ ولماذا يعانقونها؟" مدركاً بذلك أنَّه يجهل تماماً والدته. فخوان، كما سيتبيّن لقارئ الرواية، لم يتدرَّب على الحبّ والعاطفة، وهذه مشاعر تجري في قلوب الأُسر الفقيرة، إذ إنَّ المهمَّ في هذه الأُسَر هو الواقع والأفعال: أجر اليوم وخبزه، المدرسة والطبيب. كلّ هذا سيؤدّي إلى نهاية انكساريَّة فيها شيء من التحرُّر والاستسلام.
هذه المشاعر والعواطف، وطريقة عيشها، بما فيها من أنانية غير ناضجة، ستتضارب مع مشروع شقيقته إيزابيل، المرأة الخارقة التي تعمل عالمةَ أحياء وتعيش كلَّ تفصيل من حياتها كأنَّه تفصيل مهنيّ، بما في ذلك زواجها من أندرو، وأمومتها المزدوجة كراعية لأطفالها ولأمِّها. سيكون قرار الأمِّ بالعودة إلى بيت الطفولة تحريراً لها، كي تنصرف إلى نفسها قليلاً، فتقبل بعرض مهنيّ في الخارج سيبعدها عن هذه الهاوية التي تسمَّى الأسرة.
سيلاحظ القارئ أنَّ الرواية كلَّها مكتوبة بضمير الغائب، ولعلَّ خيسوس قد اعتمد هذا الخيار الدقيق لأنَّه سيساعده في رسم مسافة غير معتادة بين وفاة الأب وردَّة فعل الابن، وكي يتجنَّب، في الوقت نفسه، إصدار أيّ حكم أخلاقيّ، ويتموضع على مسافة واحدة من صراع الأجيال بين آباء وأمَّهاتٍ كافحوا من أجل أبنائهم، وأولادٍ يحتاجون إلى الابتعاد بحثاً عن مكان لهم في هذا العالم.
نهاية انكساريّة فيها شيء من التحرُّر والاستسلام
لا غرو أنَّه بين المسؤوليَّات جميعها التي يتحمّلها الإنسان، قد تكون مسؤوليَّة إنجاب الأطفال الأكبر والأكثر حسماً. إنَّ إعطاء حياة لشخص ما وجعله يكبر هو أمر يمسّ الإنسانيَّة بأسمى معانيها. نادراً ما تُناقش مسؤوليّة أن يكون المرء ابناً. يحاول كاراسكو في رواية "خذني إلى البيت" أن يناقش هذه المسؤوليَّة وعواقب تحمُّلها، تاركاً الخيار أمام القارئ للتشكيك في السلوك غير العادل لبعض الأبناء ــ كحالة خوان في الرواية، وإيزابيل إلى حدٍّ ما ــ الذين نشؤوا اجتماعيّاً بفضل جهود والدِيهم.
قد تكون "خذني إلى البيت" مُحزنةً وغير متفائلة لبعض القرَّاء، لكن لا شكَّ في أنَّها رواية تنبض بقلب الواقع، أنَّى تحدث الأشياء الصغيرة، التي يرويها كاراسكو بأسلوب راسخ وجافّ، تماماً على غرار الواقع، وهذا ما يجعل منها رواية جيّدة، يستنشق القارئ في خباياها رائحة مشابهة لرائحة الحياة.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا
بطاقة
خيسوس كاراسكو كاتب إسباني من مواليد عام 1972 في مدينة بطليوس التي أسّسها العرب، على حدود إسبانيا والبرتغال اليوم. عمل في مهن عديدة، من بينها: قاطف عنب ومدرّس ومصمم مواقع، قبل أن ينتقل في عام 1992 إلى مدريد حيث بدأ مساره ككاتب. وفي عام 2005 انتقل إلى مدينة إشبيلية حيث يعيش اليوم. من رواياته: "في الخارج" (2013) و"الأرض التي نسير عليها" (2016).