"دار الجديد": تعريفٌ نشريّ للاحترام

22 ديسمبر 2021
رشا الأمير أثناء كلمة تسلّمها "جائزة فولتير" في المكسيك هذا الشهر (إديتوريال أكواماتيس)
+ الخط -

بالأبيض والأحمر. هكذا دخلت "دار الجديد" عالم النشر اللبناني والعربي مطلع تسعينيات القرن الماضي. المتابِع لتاريخ الدار، أو لإصدارات عددٍ من الشعراء والروائيين اللبنانيين والعرب، يعرف عمّا نتحدّث هنا. قد تمرّ في بالِه أغلفةُ "خَلاءُ هذا القدَح" (1990)، و"حُجرات" (1992)، لعبّاس بيضون، أو "أيّام زائدة" (1990)، و"نُزهة المَلاك" (1992)، لحسن داوود. أو قد يتذكّر "أحَدَ عشر كوكباً" (1992)، و"أرى ما أُريد" (1993)، لمحمود درويش، في طبعتيهما الأوليين. وفي كّل مرّة تقريباً: اسمٌ بالأسود، وعنوانٌ بالأحمر، يتبعه خطٌّ أحمر يقسم الغلاف الأمامي طولياً إلى نصفين.

بهذه البساطة والرصانة، إذاً، يُدعى القرّاء إلى تلقُّف الأعمال التي تقدّمها إليهم الدار. بساطة ورصانة تقولان، في الوقت نفسه، ما هو أبعد من رؤيةٍ بصريّة. إذ لا يبدو مبالغةً القولُ إن رؤية "دار الجديد"، بمعناها الأوسع، أي بمعناها النَّشْريّ والفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ، تُقرأ هنا، منذ أغلفتها الأولى، ومنذ اختياراتها ومنشوراتها الأولى. كلّ شيء واضحٌ عند الدار وموضوعٌ أمام الأعين ببساطته وتقشُّفه ــ منذ البداية.

منذ بداياتها والدار تحافظ على العمل وفق مبادئ تؤمن بها

الخطّ الذي يقسم الغلاف قد يحمل تأويلاتٍ عديدة ــ هذا صحيح، لكنّنا نجد أنفسنا بين احتمالَيْن دائماً، ويمكن لنا في هاتين الخانتَين اللّتين يقسمهما الخطُّ أن نضع الثنائيات التي نُريد. اليوم، بعد اغتيال لقمان سليم، مؤسّس الدار، يمكننا، مثلاً، أن نقول إن الخطّ يرسم حدوداً بين العدالة والظُّلم، بين الحقّ والقهر، بين الحرّية و"الممانعة" (كلمة مفرغة من معناها). هذا سياسياً واجتماعياً. يمكننا أيضاً، من وجهة نظرٍ نشريّة، أن نقول إنّه يميّز الجميل عن القبيح، الجِدّيّ من الكتابة عن السهل والمتساهل منها.

فـ"الجديد" لم تدخل مشهد النشر العربيّ بناءً على نزوةٍ عابرة، أو على فهمٍ سطحيّ للشعر والرواية والفكر والتاريخ. أن تفكّر بأسماء مثل عباس بيضون وحسن داوود ومحمود درويش وبسّام حجّار، وأن تُعيد إلى الواجهة إصدارات أنسي الحاج التي باتت خارج المتناوَل، وأن تستقبِل حفريّات أحمد بيضون في اللغة، وعبد الله العلايلي في التاريخ والفكر، وتحليلات وضّاح شرارة في السياسة، وأن تفتح الباب لكاتبة جديدة (يُقال أيضاً "أن تكتشف") ستُثبت، بعد سنواتٍ، صواب استضافتها بين منشورات الدار، مثل إنعام كجه جي ــ كلّ هذا يعني أن الدار أخذت مهنتها على محمل الجدّ والمسؤولية منذ الانطلاق. بل إننا نفكّر أنها كانت تعمل، في الظلّ، لشهورٍ، وربّما سنوات، قبل انطلاقها بداية التسعينيات، لتحصل على حقوق النشر من هذا الشاعر، ولتُقنع ذلك الروائي بإنهاء نصّه وتسليمها إيّاه.

هذا بالتأكيد ما يُحسب للمغدور لقمان سليم، ومعه، ومن بعده، لرشا الأمير ــ أختِه، التي لم تعرف الدار اختلافاً للوتيرة والخطّ منذ تسلّمها إيّاها، بل محافظةً على المبدأ وذهاباً به إلى الأمام. وهذا أيضاً ما جاء للدار بالاعترافات الأخيرة التي ــ ولا بدّ من قول ذلك ــ كانت تستحقّها منذ سنوات، لكنِ التي لم تفرض نفسها إلّا بعد اغتيال لقمان سليم، المفجِع، الذي أظهر، ليس للبنانيين والعرب فقط، كيف يمكن للثقافة والكلمة والكتاب أن يؤثّروا. الحديث هنا عن "جائزة فولتير"، التي أعلنت "رابطة الناشرين الدولية"، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تسمية نسختها لهذا العام باسم "دار الجديد"؛ وكذلك عن "جائزة الشيخ زايد" في فرع النشر والتقنيات الثقافية، والتي نالتها الدار في أيّار/ مايو الماضي.

رشا الأمير خلال تلقّيها "جائزة فولتير" (إديتوريال أكواماتيستا)
رشا الأمير خلال تلقّيها "جائزة فولتير" (إديتوريال أكواماتيستا)

مُحزنٌ، بالتأكيد، أن يُشترَط الاعترافُ بالفقدان والتضحية، أو ألّا يأتي إلّا بعدهما. لكنّه اعترافٌ على أيّ حال، وإنْ تأخّر، فقد جاء في مكانه وأوفى لمؤسّسةٍ محترمة الحقّ الذي تستحقّه. ذلك أن ما تفعله "دار الجديد"، بالقِلّة المادّية المتاحة لها، كما نتخيّلُها، وفي ظلّ الوضع العام المأساوي الذي يعرفه ــ ولطالما عرفه ــ النشر العربي، يبقى استثناءً.

أن تعمل ناشِراً وفْق رؤيةٍ ومبدأ، وأن تكون متطلِّباً في الوقت نفسه، من دون أن تنغلق على نخبة صغيرة: أمرٌ (شبه) مفقود عربياً. الأمثلة على عكس ذلك لا تنتهي: تكاد تشمل أغلب الدور العربية، ولا سيّما الجديدة منها؛ تلك التي تنمو هنا وهناك مثل الفطر، وتنشر الصالح والطالح (مع غلبةٍ للطالح) في كُتبٍ تدعو للسخرية، أو للخجل أحياناً، بمقترحها الأدبي والفكريّ، وبإخراجها البصريّ، وبـ(لا)جودة ورقها وغلافها، وبغياب أثَر المحرّر والمدقّق اللغويّ فيها. 

وعلى سيرة اللغة، ألا تستحقّ "الجديد" تحيّةً لاحترامها القرّاء إذ تُظهر اهتماماً بالغاً بمادّتها الأساسية كمؤسّسة عاملةٍ في عالم الكتاب ــ اللّغة ــ، خصوصاً في بلدٍ يفتخر فيه كثيرون بأنهم لا يُجيدون نطق القاف (مع أنه موجودٌ في الأبجدية الفينيقية...)، وبأنّ لغتهم "الأولى"، لغة المدرسة والبيت، هي الفرنسية أو الإنكليزية؟ هنا أيضاً، ما كان قد بدأه لقمان سليم تستكمله رشا الأمير.

محزنٌ ألّا يُعترف بدور "الجديد" إلّا بعد اغتيال مؤسّسها

في الآونة الأخيرة، راحت الدار تشارك عدداً من إصداراتها بشكل إلكتروني (في كتب PDF)، مجّاناً. ليس الأمرُ بالنادر تماماً في الفضاء العربيّ. لكنّه نادرٌ عندما نعرف أن هذه الكتب، الموضوعة أمام أعين وأيدي الرّاغبين، من بين الإصدارات الحديثة: أوّل ما يفتح متصفّح موقعها خانة "اقرأ كتابك"، يقع على "الفظيع وتمثيله" للكاتب السوري ياسين الحاج صالح، أو "بعُيون النساء: شؤون اللبنانيات وقضاياهنّ" للباحثة اللبنانية عزّة شرارة بيضون، وهما ممّا أصدرته الدار هذا العام؛ أو على "سيرة ذاتية وشهادة للتاريخ" للمعارض السوري رياض سيف، وقد صدر العام الماضي، أو على أعمال أقدم، مثل "غرامشي في الديوانية" للباحثة اللبنانية دلال البزري (1994). إن كان فعل الوهْب هذا يدلّ على أشياءَ عدّة، فمن بينها، بلا شكّ، صِدْق الدار في إعلائها الثقافة والمعرفة على حساب الكسب (وهو ما ليس عاراً، بحدّ ذاته)، وتضحيتها لتحقيق مبدئها: نشر الفكر الجديد.

في عالم النشر العربي، الذي ما يزال بعيداً عمّا هو مطلوب على مستوى الحِرفية والجمالية والجودة، تشكّل "دار الجديد" استثناءً، ولا يسع المرء إلّا أن يأمل بأن يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة، إلى حالةٍ عامّة.

موقف
التحديثات الحية
المساهمون