لعلَّ أُولى مفاجآت رواية رامي الطويل "قبّعة بيتهوفن" (2021)، الصادرة عن "دار الساقي" اللبنانية، هو عنوانُها الذي استتبَع نشر صُوَر لجُمَل موسيقية من السيمفونية الخامسة. لا نعثر في الرواية على أيّ حضور لبيتهوفن، فكيف لقبّعته، سوى تلك القصة التي اشتهرَت له مع غوتيه لدى مرور موكب الأسرة المالكة.
هذا التركيز في العنوان ولواحقه على بيتهوفن، بل على قبّعته، لا يبدو مفهوماً، خاصّةً في رواية لا تُحيل إلى موسيقى بيتهوفن ولا إلى سيمفونيته الخامسة بالضبط، ولا إلى قبّعته، لكن هذا العنوان، إن كان له مكان، فهو في مواجهة الرواية، بل ومِن خارجها؛ فرواية "قبّعة بيتهوفن" لا تحيل البتّة إلى ألمانيا، أو إلى الخارج أياً كان. إنّها رواية تدور في سورية، بل هي مغرقة في سوريّتها. بطلٌ لا يغادر سورية مثلما فعل كثيرون غيره، بل ولا يريد مغادرتها بأي حال، ويردُّ كل عروض الهجرة، ومنها عرض من صديقته للسفر إلى إيطاليا وليس ألمانيا.
لعلَّ "قبّعة بيتهوفن" والسيمفونية الخامسة هما هذا الخارج الذي يأباه بطل الرواية ويرفضه. ليس في الرواية محلّ للموسيقى الكلاسيكية، بل فيها محلّ فحسب للغناء الطربي، وأحد شخصياتها ذو صوت جميل يرفعه دائماً بأغنية من هذا النوع. العنوان على هذا النحو لا يخلو من شطح، ومِن جرأة ومِن تغريب. لا نصل فوراً إلى كنهه.
شخصياتٌ غير مناضلة، لفظتها الحرب ورمتها جانباً
الرواية، كما ذكرت، محلّية للغاية، بل هي راهنة في محلّيتها. إنها فوراً رواية الحرب الراهنة في الداخل السوري، ولا أعرف إذا كان يصح، من جهة الرواية، اعتبارها حرباً أهلية. الرواية، على كلّ حال تتكلّم عن طرفَين في الحرب، يبدو واضحاً أنّهما النظام السوري من جهة والمعارضة المسلَّحة من الجهة الثانية.
لم تُولَد شخصيات الرواية في الحرب بالطبع، إنّ لكل منها ماضيه وتاريخه اللذان لا ينفصلان دائماً عن الحرب، بل يحملان في الغالب، مقدّماتها وخميرتها ويرهصان بها. إذا وقفنا عند بطل الرواية وهو الوحيد الذي يتوسّع الطويل في سرد تاريخه وحياته قبل الحرب، إذا عدنا إلى ماضيه سنجد أنّ والده العسكري، الذي يفرض على الأسرة ما يشبه نظام الثكنة العسكرية، يحمل منذ تلك الفترة ما يؤشّر إلى العنف الذي تَفجَّر في الحرب، والنظام الذكوري الذي حكمها.
إذا عدنا إلى خدمة البطل العسكرية التي بدأت بصفعة من مجنَّد سبقه إلى الخدمة بوقت قصير، نفهم من ذلك أنّ هذا الاعتداء هو في أساس التربية العسكرية وتقاليدها وقيمها. مِن ذلك نعلم أنَّ الاعتداء والعنف هما في قوام النظام والمجتمع، هذا ما ينبثّ من داخل الثقافة والتربية والتقليد، وهو لذلك يشمل المجتمع بأسره وسلطاته كلّها وبجماعاته عامّةً، أي بالسلطة ومعارضتها في آن معاً.
لذا نجد أنَّ بطل الرواية لا ينحاز، منذ البدء، لا إلى السلطة ولا إلى المعارضة. ليس له موقف من الصراع ولا من الحرب. إنه يدين المعارَضة التي خيّبته إدانته للسلطة الوراثية. يدين المعارضة بقوّة لأنها خيّبته بعد أن عقد آمالاً عليها، وبعدما انضوى في البدء في صفوفها، وشارك في تظاهرتها الأولى. سيكون حنقه عليها لذلك أشدّ وأكثر قسوة. سيكون هو وشخصيات الرواية ضحايا هذا الالتباس والمزاوَجة بين المعارَضة والسلطة. لذلك لن نجد أي دمغة سياسية لدى هذه الشخصيات.
ناصر الشيوعي القديم الذي تحوَّل عميلاً للنظام، ويبقى مع ذلك صديقاً للبطل ومساعداً له، أحمد المراهق الذي قُتلت عائلته والذي ما يعنيه للبطل هو صوته الجميل وغمزته له، ثم هناك جلنار ونجوى والاثنتان عشيقتا البطل، ولسنا نجد لهما، من قريب، دمغة سياسية. إنهما حبيبتان وامرأتان أوّلاً. شخصيّات "قبّعة بتهوفن" غير محارِبة وغير مناضلة، إنها شخصيات لفظتها الحرب ورمتها جانباً. الحرب بالنسبة لها هي مشكلة العيش، ومغالبة الظرف أوّلاً.
بل إننا إذا وقفنا عند البطل سنجده، بلغته هو، فاشلاً وخاسراً بامتياز. الحرب تجعله هكذا أقرب إلى بطل وجودي، إن فيه شيئاً من "الغريب" بل هو يعتبر نفسه غريباً، بطل يشير إلى بطل ألبير كامو، من بعيد، أمّا الرواية فتتحوّل هكذا إلى مزيج من سرد وثائقي للحرب، وفرديات تزيدها الحرب انفصالاً وفردية.
هكذا تتوارى الحرب فلا نجد سوى تسجيل لعنفها وحماقتها واستفزازها. تتحوّل الرواية في هذا المجال إلى ما يشبه وثيقة وفيلماً تسجيليّاً للواقع الدموي. لكننا، من ناحية أُخرى، نقع على أفراد يعانون وجودهم وفردياتهم، وينفصلون هكذا عن واقع وحشي يتحوّل إلى عموم مريض ودموي.
* شاعر وروائي من لبنان