رغم رحيله منذ ما يقارب الأربعين عاماً، ما زال الفنان الإسباني بابلو بيكاسو (1881 - 1973)، حاضراً بقوّة في المشهد الفني العالمي، وهو حضورٌ استثنائيّ لتشكيليّ معاصِر لم يكن مقلّاً، بل على العكس، كان أحد أكثر فناني جيله إنتاجاً، إن كان في الرسم أو في النحت. حضورٌ استثنائيّ باعتبار أن التشكيليين الذين عُرفوا بكثافة إنتاجهم قلّما حافظوا على مكانة في الصفوف الأولى بين الأعمال التي يبحث عنها الجمهور والمقتنون، كما يشير إلى ذلك القيّم الفرنسي المختصّ بالأعمال الفنية غيّوم سيروتي.
وإن كان منتَج صاحب لوحة "غرنيكا" التشكيلي والنحتي يستفيد من هذه الشهرة الواسعة، فإن اشتغالاته في حقول أُخرى ما زالت شبه مجهولة لدى الجمهور الكبير، والحديث هنا، في المقام الأوّل، عن كتاباته التي تنوّعت بين الشعر والمسرح، إضافة إلى بعض النصوص المتفرّقة.
عن منشورات "غاليمار" في باريس، صدر أخيراً مجلَّدٌ بعنوان "كتابات: 1935 ـ 1959"، يضمّ مجمل ما دوّنه الفنان الإسباني، حيث يشتمل الكتاب على عشرات النصوص الشعرية التي وضعها في فتراتٍ متقطّعة، لكن ضمن حيّز زمني قصير في كلّ مرة، كما يضمّ مسرحيّتيه "الفتيات الأربع الصغيرات"، و"الرغبةُ ممسوكةً من ذيلها".
كما تضمّ الدار الفرنسية إلى الكتاب مجمل مسوّدات بيكاسو، وملاحظاته، إضافة إلى جُمَل متفرّقة، وهي في الغالب نصوصٌ قصيرة كتبها على قصاصات ورق، أو خطّطها على لوحات، ورسائل وبطاقات بريدية، أو حفرها على موادّ صلبة، مُظهراً في ذلك التداخل بين رغبته الكتابية وبين رؤيته البصرية.
وتشترك أغلب النصوص في انتمائها إلى عوالم سوريالية، فوق واقعية، ليس في الشعر وحده، الذي ينحو فيه بيكاسو إلى الكتابة الآلية والتداعي الحرّ، ملاحقاً الكلمات حيث تأخذه، بل وكذلك في المسرح، حيث لا تُلقي نصوصه المكتوبة للخشبة بالاً إلى البُنية التقليدية، من حبكة وشخصيات وتطوّر منطقيّ للقصة، بل تنحو نحو الشعرية ومسرح العبَث.
وتشير مقدّمة الكتاب ــ الذي يضمّ أيضاً ملفّاً نقدياً عن بيكاسو بوصفه شاعراً وكاتباً ــ إلى رغبة الفنان الإسباني، التي أسَرّ بها أكثر من مرة، في أن يُطبَع له كتابٌ "يمثّل الصورة الحقيقية لشخصيّته والبورتريه الأكثر وفاءً له. صورةٌ يمكن لنا أن نرى فيها الفوضى التي عُرف بها، بحيث تكون كلّ صفحة فيه فضاءً للعبث، بعيداً عن أي رغبة في الترتيب أو في تنظيم (النص)".