أربعة مسارات فنّية في معرض اختار غاليري "المرخية" في الدّوحة أن يبدأ بها حِراكه التشكيلي لهذا الصيف، وهو الفصل الذي يشهد عادةً تراجعاً في المناشط الثقافية، بسبب تقاليد تربط الشهور الحارّة بالأماكن المغلقة التي توفّر التكييف، فضلاً عن كونها من شهور الإجازات السنوية.
نشأت لدى جِهات عديدة، ومنها غاليري "المرخية" - وهو أحد أبرز أروقة الفنون في مدينة الدوحة - رغبةٌ وحاجة في كسر هذا التقليد المناخي، وهو هنا قد أطلق اسم "مسارات 1" على معرضه، الذي افتُتح مساء أول أمس الأحد ويستمرّ حتى 5 تموز/ يوليو، لتليه "مسارات 2" وربما 3. الفنانون في "مسارات 1" فرج دهّام من قطر، وراشد دياب من السودان، وجمال عبد الرحيم من البحرين، ومزاحم الناصري من العراق.
في معرضه يقف فرج دهّام أمام الاستعارة النباتية التي تمنحها شجرة القُرم (المانغروف) الساحلية التي تعيش فوق مياه ضحلة مالحة تقلّ فيها التيارات المائية، وهي التي يمكنها التنفس من جذورها الصغيرة وقت حدوث الجَزر وعند المدّ تغلق خلاياها. وعلى المساحات التي تفترشها يتشكّل مأوى الطيور المهاجرة، وتحتها تعيش الكائنات البحرية بما يجعلها تستحق لقب "الشجرة الأم".
رسم دهّام بخامات مختلفة على الورق، محافظاً على درجات زاهدة وتجريدية من اللون البُنّي، ومنشغلاً أكثر في البحث عن طريق له بين طبيعة الثقافة والثقافة الطبيعية، ويقول لـ"العربي الجديد": "إنّ شجرة القرم ليست أمراً غريباً عن المناطق البحرية الضّحلة في العالم، لكنّ مقاربتها من جانبي الطبيعة والثقافة اشتعلت في 2014 مع ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم" وقراءته في الطبيعة الثقافية والهواجس اليومية من حروب وهجرات ووقوف هذه الشجرة شاهداً على حرب أُخرى تطاول بيئة الكوكب.
حضرت أعمال الفنان البحريني جمال البحريني نيابةً عنه، واستطاع محبّو سلسلة لوحاته المسماة "رسائل قصب" معاينة جانب منها، بينما جزء منها مقتَنى من المتحف البريطاني. وفي أكثر من 20 عملاً طُولياً رفيعاً من فنّ الطباعة الحجرية كالمعلّقات، نكون أمام رموز من الحضارات القديمة وأساطيرها، محفوفة بالخط العربي وأبيات الشعر. بينما يجمع الفنان بين اللون والمعنى، يترك للرائي ملاحقة طرف بيت من شعر المتنبي "أنا الطائر المَحكيُّ والآخر الصَّدى" أو "إذا رأيت نيوب الليث" أو ملمحاً من فن "البوب" المُعاصر.
لننظر إلى ما يقوله راشد دياب. إنّ القول له ترجمة بصرية فورية فـ"الفن بالنسبة لي هو في نهاية المطاف الصّلة بين البشر. إنّه أيضاً يُحافظ على الثقافات ويشير إلى تنوّعها، ونحن مسؤولون عن حفظ تاريخنا الثقافي وتطويره". يضعك الفنان، وهو اسم بارز في المشهد التشكيلي السوداني، أمام عبارته واضحة الانتماء إلى تُراثه الثقافي، وكأنّ حفلة الألوان التي يمنحها في اللوحة هي مرور النساء السودانيات بأزيائهنّ الغنية والمتوهّجة.
وهن بالفعل يعبُرن اللوحات في لعبة فنية أزاحت الإطار عن دوره المركزي الذي يحدّد مكوناته ويضبط حركتها. فالنساء بعضهن داخل إطار وبعضهن في الطريق إمّا أن يدخلنه أو لا، أو متمهلات ينتظرن مساعدة ما، كما تذهب الأغنية الشعبية الشهيرة "يسلملي خال فاطمة". خال فاطمة من الفروسية بمكان، بحيث يمكنه تقديم المعونة للمتعطّلات خارج اللوحة.
ورغم قدرته المتفوّقة في الرسم الواقعي، يميل الفنان العراقي مزاحم الناصري إلى ما يُمكن وصفه بالهروب من المبارزة التشخيصيّة إلى ما يجعل الفنّان التشكيلي يرى شيئاً آخر، حتى لو كان طبيعة صامتة. يقرّر الناصري خلق تكوينات بين اللون والضوء والمزج بين الواقعية والتجريد في موضوع واحد هو الوردة المُلصقة على سطح الكانفاس، أو التي سحب منها خصائصها الطبيعية بجعلها نُحاسية اللون.
ودائماً الوردة وحيدة، وإذا أُضيفت إلى السّطح فإنّما مثبّتة بشريط لاصق، ليس لاصق الجروح، لكنّه خيار المشاهد الذي يرى الوردة معلّقة على جدارها، أو أنّ الجدار سال من بَتلاتها حتى تشكّل، كما تتشكّل الأشياء في الطبيعة، أو الغرافيتي البدائي بفعل المطر والشمس والظلال والمرور العابر للغرباء.