"نظرية الفعل التواصلي": في متاهة ورشة هابرماس

11 مايو 2021
هابرماس في كاريكاتير لـ هادي أسدي
+ الخط -

راج اسم المفكّر الألماني يورغن هابرماس (1929) في الآونة الأخيرة، عربياً، بسبب رفضه تسلّم "جائزة زايد" كشخصية ثقافية لعام 2021. كان حضوراً مكثّفاً لعَلَم من أعلام الفكر في زمننا ضمن النقاشات العربية. لكن، هل يحقّ لنا اعتماد مفردة "حضور" إذا كانت ثقافتنا تتلقى مفكّراً أو كاتباً عبر هكذا ضجّة من دون أن تحضر أفكاره بشكل واسع، على الأقل في فضاء النقاش النخبوي؟

تفرض هذه الملاحظة نفسها حين نذكر أن كتاب هابرماس الأهم (بإقرار منه) والأضخم، "نظرية الفعل التواصلي"، قد مرّ صدور نسخته العربية مؤخراً دون كثير اهتمام. صدر العمل منتصف 2020 عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في مجلّدين؛ الأول بعنوان "عقلانية الفعل والعقلانية الاجتماعية" والثاني بعنوان "في نقد العقل الوظيفي"، وقد نقله إلى اللسان العربي أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية فتحي المسكيني

يشير تفاوت الاهتمام بهابرماس في المناسبتين إلى إحدى إشكاليات الثقافة العربية راهناً، حيث تنزل الأسماء الفكرية من سماء النظريات إلى الأرض العربية ليس من خلال أفكارها وكتاباتها بل ضمن أحداث ومواقف متفرّقة تصنع حالة تلقٍّ مزيّفة. 

ولعلّ قارئ "نظرية الفعل التواصلي"، بالذات، في نسخته العربية، سيتفطّن سريعاً إلى ما بقي خارج الثقافة العربية لأكثر من أربعين عاماً، حيث صدر هذا الكتاب في 1981. فالعمل عبارة عن موسوعة للمعرفة الاجتماعية لا يكتفي فيها هابرماس بجمع المادّة النظرية بل يفحصها ويقدّم مقولات تأليفية حولها، فكأنه كان يهدف إلى بناء فضاء عمومي متخيّل للنظريات الاجتماعية يتناقش فيه مع ماكس فيبر وإيميل دوركهايم وجورج هربرت ميد وتالكوت بارسونز وكارل ماركس وأعضاء مدرسة فرانكفورت وهابرماس نفسه.

يجعل من التواصل حجر الأساس لكلّ تنظير حول المجتمع

من زاوية نظر أخرى، يمكن اعتبار الكتاب مُرّكَباً طريفاً من الثيمات والحقول المضمونية، فحين نكون داخل "الورشة الفلسفية" التي يشتغل فيها هابرماس، والعبارة له، فنحن نعبر فضاءات معارفَ متنوّعة يلمسها الكتاب من خلال إشكالياته الخاصّة ببناء تصوّر للحياة الاجتماعية قوامها علاقات التعاقد التواصلي بين الأفراد، فنتقاطع في الأثناء مع تاريخ الفكر وقضايا العلم والدين والقانون والحداثة، ونشعر أن وضع هذه العناصر في إناء واحد يخلق محاكاة للتفاعلات الفوقية التي تحكم الحركة الاجتماعية.

مدخلٌ آخر ممكنٌ لعمل هابرماس الضخم هذا (قرابة 1300 صفحة في النسخة العربية)، هو الهيكل المفاهيمي الذي يقترحه المفكّر الألماني في سبيل بلوغ الأهداف التي يطرحها على نفسه. يساعدنا ثبت المصطلحات نهاية الكتاب على تمثّل هذا الهيكل المفاهيمي، ولا بدّ هنا من أن نشير إلى ما أقرّ به المترجم من كون "لغة هابرماس الفلسفية والسوسيولوجية ضمن كتاب 'نظرية الفعل التوصلي' تحتوي على نوع لافت من التجديد في بنية العبارة المفكّرة، إذ ما عاد الأمر يقتصر على خلق مفاهيم مفردة في ألفاظ معزولة تختلط باللغة العادية بل بات يقوم على بناء مدوّنة تفكير أو صياغات اصطلاحية خاصّة ربما تكون مفرداتها معروفة لكنّ تركيبها في إطار شبكة من المقاصد النظرية أو النقدية هو نمطٌ بحثيّ مستقلّ بذاته".

هذا التجديد الاصطلاحي، وعلى الرغم من حرص هابرماس على عدم المبالغة فيه، لعلّه سبب آخر من أسباب انقطاع الثقافة العربية عن معظم المنتج الفكري الجديد، ليس لصاحب "المعرفة والمصلحة" فحسب، بل على نطاق أوسع عالمياً. فأيّ أفق بحثي يمكنه تلقّي أفكار عمل إشكالي مثل "نظرية الفعل الاجتماعي" قبل تأصيل معارف مثل علم الاجتماع واللسانيات، وقبل استقبال مفاهيم مثل عالم الحياة وألسنة المقدّس والاعتراف البيذاتي بأريحية؟ وقبل ذلك، كيف نهيّئ لاستقبال أعمال فكرية كبرى مثل "نظرية الفعل التواصلي" من دون إضاءات موسّعة لعدّة نقاط مثل الحاجة إلى تأليفه وكيف كان استقباله الأوّل في لغته الأمّ، ثم في لغات مجاورة؟

تأخّرت ترجمة الكتاب إلى العربية أربعين عاماً بعد صدوره

بالنظر في هذه السياقات التي يجدر بنا الانتباه إليها، سيعيد كتاب "نظرية الفعل التواصلي" ترتيب بعض الأوراق، ومنها كيف نُموقع هابرماس في خارطة الفكر. ففي متداول نقاشات الثقافة العربية، لا يزال المفكّر الألماني محسوباً على "جماعة فرانكفورت"، والمعلومة صائبة إذا ما رجعنا إلى سيرته المهنية لنجد ذلك التقاطع مع "معهد الدراسات الاجتماعية". ولكنّ هابرماس كان منذ السبعينيات ينزع نحو مغادرة "فرانكفورت"، وإنّ كتاب "نظرية الفعل التواصلي" يمثّل نقطة التباين النهائي التي تجعل القارئ يكفّ عن ربط هابرماس بشكل عضوي بالمدرسة.

يقيم المفكّر الألماني كلّ بحث في المجتمع على فحص الممارسات التواصلية، بل ويجعل منها منتجةً للاجتماعيّ، وهو ضرب من الاجتهاد من أجل مفارقة مسلّمات "النظرية النقدية" كما تصوّرها أدورنو وهوركهايمر. يشتغل هابرماس هنا ضمن براديغم معرفي لم تتحرّك في أفقه "مدرسة فرانكفورت"، فيعتمد براديغم اللغة مقابل براديغم الوعي، حيث يرى أنّ ما لا يمكن إسقاطه من كلّ تمثّل للمجتمع هو البعد التواصلي، وهذا الأخير يقوم دائماً على عقلانية تنتجها مصالحُ بشكل عفويّ ودائم، بل إنّ مفهوم العقلانية ذاته يقيمه على التواصل، فيعرّفها بوصفها "استعداداً خاصّاً بذوات قادرة على الكلام والفعل".

وفي المحصّلة، يوجد دائماً عنصر تواصليّ لا يمكن تقويضه وينبغي للمعرفة أن تدافع عنه لبناء بقية المنظومة الاجتماعية نظرياً، وهو عنصرٌ مفلتٌ من المعرفة الاجتماعية التي تمأسست قبل قرابة قرن من تأليف كتاب "نظرية الفعل التواصلي". يقول هابرماس في هذا الصدد: "نحتاج إلى نظرية في الفعل التواصلي إذ ما أردنا أن نستأنف على نحو مناسب إشكاليّة العقلنة الاجتماعية، تلك التي تمّ استبعادها بشكل واسع من دائرة النقاش السوسيولوجي المختصّ منذ ماكس فيبر".

موسوعة للمعرفة الاجتماعية جمعت بين العرض والنقد والتأليف

من أجل هذا الهدف، يربط هابرماس النظريات السوسيولوجية بالمنعطف اللغوي، وهو أمرٌ شاقّ يمكن تشبيهه بربط مسار كوكبين، نظراً لتضخّم مدوّنة العلوم الاجتماعية من جهة، وضرورة الاعتماد على مقولات معارف متباينة من الفلسفة إلى اللسانيات من أخرى، وإن كان من المعروف أن هابرماس محبٌّ للاشتغال النظري العابر للتخصّصات حتى قيل عنه بأنه "عامل على الحدود"، بعبارة لأوتفريد هوفه يُقرّها المترجم في مقدمة النسخة العربية.

هابرماس ج1

ينتج هذا التنوّع والتشعّب صعوبة في الإمساك بمقولات الكتاب، وقد كان هابرماس يحسب حساباً لمثل هذه الإشكالية التي تعترض المؤلّفات التي لا تستقر على أرضية محروثة. ولقد أصدر في 1984 كتيّباً بعنوان "دراسات تمهيدية وملاحق تكميلية حول نظرية الفعل التواصلي"، كما حاول أن يعين القارئ حين يصطحبه في رحلته في فحص النظريات ببُنية مخصوصة لعمله، حيث ينقسم الكتاب إلى مجموعة من المداخل، وفصول مطوّلة يستعرض فيها الفكر الاجتماعي وينقده، كما وضع فواصل تأمّلية، عددها ثلاثة، تتيح للقارئ أن يفصل بين العرض النقدي والمقولات الخاصة بهابرماس.

كان طموح صاحب "العلم والتقنية كأيديولوجيا" امتلاك كلّ تاريخ التنظير الاجتماعي من أجل تهيئة الأرضية لكلّ تنظير مُقبل. لعلّه درْس هابرماس الذي ينبغي لثقافتنا أن تأخذه، فلا مناص من الإحاطة بأفق معرفي واسع لمجابهة الواقع، ولا بديل عن التنظير للاقتدار على السيطرة على الواقع. يقول: "من واجب نظرية الفعل التواصلي أن تمكّننا من بناءٍ مفهوميّ لسياق الحياة الاجتماعية يكون مناسباً لمفارقات الحداثة"، ولعلّنا - كثقافات خارج المركز الغربي - أَوْلى بمثل هذه الرؤية ما دمنا من ضحايا الحداثة.

يقيم هابرماس مجمل تنظيراته على مفهوم الفعل التواصلي، ومن خلاله يطوّر شبكة مفاهيم في اتجاهات ثلاثة؛ ضمن مبحث العقلانية، وبتقديم تصورات حول المجتمع من منظورات جديدة، ويقترح كذلك طروحات جديدة حول الحداثة باعتبارها منتجة للتحوّلات الاجتماعية باستمرار. وضمن هذا الأفق الأخير يمكن أن نرصد الأهمّيّة العملية لمشروع هابرماس، حيث يضع افتتاحيات نظرية للتفكير في قضايا إشكالية تطرحها العقود الأخيرة مثل اهتزاز النموذج الديمقراطي أو صعود الراديكالية.

وإذا ما وضعنا كتاب "نظرية الفعل التواصلي" على السلّم الكبير للفلسفة سنجد بأن هابرماس قد قدّم  أهمّ محاولة لترميم مفهوم العقل الذي اشتغل على صياغته في القرن الثامن عشر إيمانويل كانط ثم تصدّع تحت ضربات المطرقة النتشوية.

هابرماس ج2

وككلّ أعمال هابرماس، جرى انتقاد كتاب "نظرية الفعل التواصلي" بسبب انغلاقه في الأحادية التقليدية للفكر الغربي، فهو لا يناقش في مغامرته إلا مفكّري الغرب، ولا يتصدّى بشكل معلن إلا لقضايا أوروبا، وهو مصابٌ بـ"العمى الجندري" بعبارة نانسي فريزر.

لكنّ كلّ ذلك لا ينفي فوائد نقل أعمال صاحب "القول الفلسفي للحداثة" كخطوة أولى لاستنطاقها وإخصاب الفكر العربي بمقولات جامعة وحسّ نقديّ جريء، ولو لم يتحقّق ذلك، حسْبُنا تدريب العربية على خوض مغامرات تقودها إلى مجاهل معرفية شاسعة وتجبرها على الاحتكاك بصخور التعقيد النظري. ولكي تتحقّق الفائدة، يُرجى عدم التشويش على مواكب نقل أعمال المفكّرين الكبار بحشرهم في سجالات صغيرة.

المساهمون