قد يبدو جدّياً السؤال عن مكان الرواية البوليسية في الرواية العربية اليوم. يُمكننا القول إنّ هذا النمط يَكادُ يكون معدوماً في الأدب العربي. هذا يستجرّ بحثاً عن الأسباب، التي لا بدّ أن تكون، بالدرجة الأولى، ثقافية. الرواية البوليسية أُحجية ذات نسق حِسابي، وهي لم تتكوّن إلّا منذ عهد قريب، وفي مجتمعات حديثة تمُتُّ إلى غرار اجتماعي وثقافي حديثَين تقريباً.
لا بدّ أن افتقار أدبنا إلى هذا النمط عائدٌ إلى أنّ ما يولّده ثقافياً واجتماعياً، غائب عن حياتنا. ذلك لا يمنع من أنّ محاولات هامشية لهذه الرواية وُجدت في أدبنا، لكنّها لم تترسّخ ولم تولّد ما يمكن اعتباره رواية بوليسية عربية.
"نهاية الصحراء" للروائي الجزائري سعيد خطيبي الصادرة أخيراً عن دار "نوفل" اللبنانية، واحدة من هذه المحاولات، بل من أكثرها مطابقة للنمط البوليسي. الرواية البوليسية ليست وحدها المُفتقَدة في أدبنا، رواية الخيال العلمي هي أيضاً مفتقدة رغم عدد من المحاولات الهامشية التي تتقصّدها، أو تبني عليها.
"نهاية الصحراء" لسعيد خطيبي خالصة للنمط البوليسي، بل نحن لا نكفّ، في أثناء قراءتها، عن استعادة هذا النمط واستذكاره، ولو على نحو مغاير؛ فالرواية تكاد تكون تمريناً على الرواية البوليسية، وذلك ما تتّجه إليه من بدايتها. هناك في مطلعها ركن الرواية البوليسية، "الجريمة". مقتل زازا أو زكية المُغنّية في فندق الصحراء، ومتابعة هذا الحدث والبناء عليه، يؤكّدان انتساب "نهاية الصحراء" إلى النمط البوليسي. مقتل زازا هو سؤال الرواية وعقدتُها، لكنّ الأمر لن يتعدّى ذلك كثيراً.
تنقلب الرواية وتضيع عن نموذجها البوليسي وعن صيغتها الأولى
مقابل الجريمة لا نجدُ ما يعادل شارلوك هولمز أو هركيل بوارو وغيرهما من المحقّقين، الذين هم من أركان الرواية البوليسية الغربية. لقد قُتلت زازا، وسنصل عبر القصّة إلى قاتلها، لكنّ الذي يؤدّي بنا إلى ذلك، هو السياق الروائي وحده. نعرفُ أنّ عشيقها بشير لعمر ليس هو القاتل، رغم ما انتهى إليه غرامُهما من تباعد، لكنّ الشرطي حميد الذي يصل إلى معرفة المُجرم، لا يصل إليه بتحقيق أو ما يشبه التحقيق. الشرطي هنا هو الشرطي في مجتمعاتنا ودولنا، ليس حميد محقّقاً أو ما يُشبه المحقّق، إنه رجل أمن غير ناجح في وظيفته، فقد نُقل بسبب خلافه مع رئيسه إلى منطقة ثانوية، وهناك سيرة الشرطي المعتادة، فهو يبتزّ ويُسمسر، بل ويغطّي على الجريمة.
حميد إذاً هو الشرطي عدوُّ الشعب، وابن دولة قامعة ومستهينة بالشعب، كما هي الحال عندنا وفي بلادنا. لسنا إذاً أمام المحقّق الذي هو في الرواية البوليسية المعتادة عقل الدولة وعقل القانون. إنّه المرتشي والقامع والمتآمر والمتواطئ والمتسلّط. هكذا تغدو الرواية البوليسية بقلم جزائري، مُجرّد صورة لجريمة عاملة، ولحكم إجرامي، ولفساد الشرطة وتسلّط الموظّفين والأمنيّين.
زازا تُقتَل، لكنّها ليست الوحيدة التي تلقى هذا المصير. ليستِ القتيلة الوحيدة، بل هي التي تُقتل تغطيةً لجريمةٍ أُولى سبقت موتها. حميد الذي يقارب دور المحقّق في الرواية البوليسية، ليس بالطبع في ذكاء هولمز أو بوارو، وليس له عقلهما الحسابي، لكنّ الرواية البوليسية تقوم بمحقّق، وعلينا أن نبحث عنه فيها. وقد يخطر لقارئ "نهاية الصحراء" أنه هو بديل المحقّق، لكن حميد المنقول تعسفاً إلى حيث مكان عمله، لا يملك بالطبع ألمعيّة محقّق ولا جدارته، هنا تكاد الرواية تنصرف عن نموذجها البوليسي.
لا نحتاج هنا إلى تحرٍّ وحسابات وعمل عقلي ورصدٍ لمعرفة القاتل، إذ يتراءى، بعد جهد، أنّ القاتل معروف، وأن من يخفي اسمه ويغطّي عليه هو رجل الأمن نفسه، هنا تنقلب الرواية البوليسية وتضيع عن نموذجها وعن صيغتها الأولى.
لا نجد الدولة المنتظمة التي تبرّر التحرّي، ويصدر هو عنها، كذلك لا نجد الثقافة العقلانية التي يرتكز عليها التحرّي، إنّما الخلط والفوضى والعلاقات القرابية والنمط شبه العشائري. بهذا لا تعود الرواية بوليسية تنتظم فيها الأسرار، بل تغدو نوعاً من النقد الاجتماعي، نوعاً من الافتضاح والانكشاف والتدنّي والفساد. والرواية تتحوّل بهذا من بوليسية إلى الجريمة والخداع والقتل الحرّ. إنها رواية بوليسية، لكن يخونها المكان ويخونها الظرف وتخونها الدولة والمجتمع.
* شاعر وروائي من لبنان