استمع إلى الملخص
- ابتكر غادامير مفهوم "انصهار الآفاق" لتفعيل الحوار الإيجابي بين الأطراف المتدخلة في عملية الكتابة، مشجعاً على التفاهم والتعايش من خلال الحوار المفتوح.
- تلعب الترجمة دوراً حيوياً في تقريب الثقافات المختلفة، حيث تسعى إلى تجاوز الشتات اللغوي والثقافي وتعزيز التفاهم بين الشعوب، مجسدةً فكرة "العود الأبدي" لنيتشه.
يَعلم المهتمّون بالفكر والنقد أنّ الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير دشّن انعطافاً تاريخياً في التأويليات، إلى جانب تأويليِّين آخرين ينتسبون إلى القرن العشرين، وأنّه برز بينهم بانتقاله من حيّز التنظير لهذا المبحث الجديد في مجال الدراسات الفلسفية والنقدية، إلى الاجتراء على تطبيق ذلك التنظير على الفنون، مبرزاً إمكان تشغيله في الأدب، خاصّة الشعر، بتقديمه أمثلة عملية على اقتدار التأويليات على الاقتراب من هذه القارّة الفنّية العصية، وبرهن على إمكان النجاح في محاورتها؛ لذلك لم يكن غريباً أن ألفيناه يعنون الكتاب - الذي أفرده لهذه التجربة النقدية المتفرّدة - بـ"القصيدة والحوار".
بالاستناد إلى "الحوار"، وهو مكوّن مركزي في النشاط التأويلي، ابتكَر غادامير، أثناء اشتغاله في هذا المجال، مفهوم "انصهار الآفاق"، الذي يروم تفعيل الحوار الإيجابي بين الأطراف المتدخّلة في عملية الكتابة، سواء كان مبدِعاً أم ناقداً أم مُعيد كتابةٍ (أي مترجِماً)، ليَكون مفهوماً يُفصح عن اعتراف صريح بمكانة كلّ طرف من هذه الأطراف، وبأهمّية الآراء التي يبديها، وباستعداده للانخراط في هذه العملية، في أفق الوصول إلى اتفاق فيما بينهم يُبنى على الثقة، ويضمن التفاهم والتعايش والسلم.
واضحٌ، إذن، من عنوان كتاب غادامير "القصيدة والحوار"، أنّ استراتيجية الحوار جوهرية في الأدب حتى يُمكن الوصول إلى أُفق مشترك، وأنّ العملية كلّها تُنجَز بوساطة اللغة، ما دام الحوار عمليةً تُبدي بها الذاتُ أثناء ممارستها استعدادها للتفاعل الإيجابي بالمساهمة فيه من خلال الانفتاح على الآخر، وبقبولها الاختلاف معه في الوقت ذاته، أي بقبول اختلافه عنّا في قيمه، وفي نظرته للوجود والأشياء، وكذلك القبول بالإصغاء إليه، في سعي حثيث إلى التقريب بين الأفراد والمجتمعات، وهو ما يضمن لآفاقنا أن تنصهر مع آفاق غيرنا، بتنازل منّا ومنهم على حدّ سواء.
إنتاج نصّ مطابق لفظياً للنصّ الأصلي أمرٌ يتجاوز الخيال
ولا يخفى أنّ كلّ هذه العمليّات الذهنية والأخلاقية والكتابية مشتركة بين الأدب والترجمة، لأنّ الترجمة ذات اشتباك وثيق معه، فهي بحسب جورج ستاينر، أنه "مهما كانت الأسباب الكامنة، فإن مهمتَـها تقريبية وثابتة دائماً"، أي إنّها تحرص على تقريب نصوص أجنبية بإحلالها ضيفةً على ثقافة غريبة عنها لساناً وقيَماً، لتتعرّف الثانيةُ على رؤية للوجود غيريّة ومختلفة، وأنّ الجهد الترجمي حريّ بأن يحظى بالاحترام، لأنّه، وفق ستاينر مرَّة أُخرى، جهدٌ خرافي، ذلك أنّ "إنتاج نصّ مطابق لفظياً للنصّ الأصلي (تحويل الترجمة إلى إعادة كتابة كاملة) هو أمرٌ يتجاوز حدود الخيال".
لنتذكَّر أنّ سردية بابل تُؤكّد مسؤولية البشر في معاناتهم الشتات اللغوي، بعدما بلبل الربّ ألسنتهم، بسبب إثارتهم لغضبه، نظراً إلى عجرفتهم واجترائهم عليه؛ وكان طبيعياً أن ينجم عن الشتات اللغوي شتاتٌ ثقافي بتجلّياته المختلفة، وأن تُراهِن الترجمةُ على ذاتها وفعاليتها كي تُقرّب بين الثقافات، في محاولة صريحة لتدارك العطب، فتطمحَ إلى استعادة الحال الأُولى للبشرية قبل الشتات.
ويبدو أنّ الترجمة، مُجسَّدَةً في عمل مزاوليها، تُفصح في الواقع عن إيمانها الراسخ بفكرة "العود الأبدي" التي روّجها نيتشه، أي إنّها تُعلن تطلّعها إلى استعادة الوحدة التي شُتّتت، بترويجها خطابات ثقافات البشرية مصوغةً في ألسنة سكّان الأرض، لتجعلهم جميعاً مواكبين لما يعتمل في عالَمهم من جهة، ولتحقيق التفاهم من أجل ضمان التعايش والسلام فيما بينهم.
الأُفق الأكبر المستقلّ بذاته، والذي يصهر الآفاق جميعها فيه
ولا مندوحة، إذن، عن توسيع مفهوم "انصهار الآفاق"، لكي تُدرَج الترجمة ضمنه، بصفتها مساهِمة أساسية في ترسيخه، واعتباراً لما يسم نشاطها من انفتاح على الآخر، ومن حوار مع ثقافته، ومن رضى بالتفاهم معه، ومن قبول به بالحال التي هو عليها؛ لأنّ ما تقوم به الترجمة هو صهر الآفاق الثقافية بجعل النصوص تتحاور فيما بينها، أي إنها تُقرّب الثقافات بعضها من بعض، حتى لكأنّها الأُفُق الأكبر المستقلّ بذاته، والذي يصهر الآفاق جميعها فيه.
* أكاديمي ومترجم من المغرب