أرضٌ يباب

19 يوليو 2024
من مخيّم الشاطئ في غزّة، 27 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- المنفى ليس مكاناً يستحق المديح، بل هو فقدان للهوية والرموز التاريخية، مما يسبب الألم والكوابيس والارتباك.
- اللاجئون والمهاجرون يعانون من فراغ نهاية الخدمة والندم، حيث تحولت المنافي إلى أسطورة زائفة بفعل الرأسماليين والشعراء.
- اللاجئون من الجنوب إلى الشمال أو الجنوب يعانون من عدم الراحة في كلا الجانبين، ويعيشون في صدمة طويلة الأمد دون حلول فعّالة.

لا يستحقّ المنفى أيَّ مديح. كلُّ منفى، سواء كان في الشمال أو في الجنوب، هو اسمٌ على مسمّى. امتداح المنافي في هذا الزمن مجرّد خللٍ في الوعي والبصر والذاكرة. مَن فقَد سماءَه الأُولى، وطعامه الأوّل، ووجوه أقاربه ومحبّيه الأوّلين والأوّليّين، سوف يفقد رموزه التاريخية أيضاً، ولن يجد أمامه في أرض اليباب من بدائل، حتى لو ظنّ هذا، بحسن نيّة.

أتعرفون؟ حتى من وجَد تلك البدائل المُلتبسة واكتفى بها، وهماً أو عِلماً، سيجد نفسه اليوم في وضع حرِج: ينفتح أمامه الزمن على شكل حواف وهُوّات. ليلهُ عدمٌ وكوابيس، ونهاره ارتباكُ زمنٍ ووجود.

أكتب عن هؤلاء لأنّي أعرفهم: لأنّي منهم. يجرون ولا يدرون، حسب مزاج الريح واللحظة. لقد صاروا أسرى العائلة والعمل وخواء نهاية الأسبوع ومدوّنة الضرائب.

والأسوأ من ذلك أنّ فراغ نهاية الخدمة، بعد التقاعد، ينتظرهم على كلّ إشارة في الطريق، وسيكون مملوءاً بالندم: مساحة بلا حدّ من أفكار حزينة، وكلّها مهجورة واقعياً. الرأسماليون المحدثون وبعض الشعراء حوّلوا المنفى إلى أسطورة. جعلوا له ذلك السحر الخفيّ والهالة الغامضة ونُذُرَ الخفاء، تماماً كما فعلوا مع البرجوازية من قبل.

هربوا إلى بلاد أقلّ سوءاً، لكنّهم غير مرتاحين في الضفّتين

لكنّ كلّ هذا انكشف وصار خلف غبار الزمن. من اليوم، يجب على اللاجئين من الجنوب إلى الشمال، ومن الجنوب إلى الجنوب، أن يتخلّوا عن هذه الأسطورة، فالثمن مُكلف وفوق طاقة البشر. ثمّ إذا كانت الأسطورة تبقى على قيد الحياة بفضل مرونة الميثولوجيا على الأرجح، فإنّ الواقع مختلف، ولا مرونة فيه للاجئ أو نازح أو منفيّ.

لا تحايا ولا انحناءات ولا تلويحات للمنافي، فما من منافٍ جميلة في الفاجع الرأسمالي الذي يسود الكوكب.

المنافي ليست احتمالات كُتبٍ، وإنّما سكاكين في الخاصرة. حتّى الأديب المنفيّ، ستراه يتكلّم أحياناً أمام جمهور أبيض وصغير، دون أن ينتبه للحشرجات، مع وجود كتل كثيرة في المريء والحنجرة، يمكن تخيّلها وتوقّعها، حتى لو كانت غير ظاهرة للعِيان. هذه ملاحظات لا تستحقّ أن تمرّ من دون أن يلاحظها أحد بيننا.

نعم، ليس صعباً أن نتخيّل الألم والمعاناة، وما يمكن أن يعنيه ذلك لملايين اللاجئين الجنوبيّين (وسكّان منطقتنا على رأسهم)، وهُم عراة من الجذور والغد، في غرب لا يرحم: حيارى، يا وِلداه، مقتلَعون، يمشون مع التيار الجارف، من دون أدنى قدرة على كبح الخطى، والنظر للخلف، حتى يفعل الله أمراً كان مفعولا.

حيارى، يا وِلداه، مقتلَعون، يمشون بانكسار، ولن تجد لهم يوماً خطى سريعة وحازمة في أقدامهم، كما يفعل المواطنون والمواطنات البيضاوات. واقفون على باب جمعيّة خيرية، أو على باب "الأسِستن"، غير معترف بهم دائماً ومتأخّرون جدّاً.
صحيح أنّهم هربوا من بلاد أسوأ، إلى بلاد أقلّ سوءاً، لكنّهم غير مرتاحين في الضفّتين. هناك تبهدلوا، وهنا دخلوا في صدمة طويلة الأمد، يعالجونها بما لا ينفع.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون