"أرني وجهك أيها الهارب" لمحمد ناصر الدين: التجربة حين تتّسع

26 فبراير 2023
محمد ناصر الدين
+ الخط -

"أرِني وجهك أيها الهارب"، ديوان الشاعر اللبناني محمد ناصر الدين الجديد، الصادر عن دار "الجمل"، قفزةٌ في شعره، الذي يسعى، منذ بدايته، إلى تأسيس قصيدةٍ خاصة. رغم أن ناصر الدين يبني على سابق شعره، في سعي هذا الشعر لتكوين قصيدة من جملة واحدة، وذات إيعاز بلحظة تتساوق في فكرة وكتلة، فإن ديوانه الجديد قفزٌ أيضاً على أسلوبه. نجد فيه، تحت قصائد بعناوين جامعة، نصوصاً هي عبارة عن حقل يتفرّع إلى عدد من العناوين الصغيرة.

هكذا نجد، تحت عنوان "ابتهال إلى ربّات الإلهام"، قصائد فرعية تبدأ بنوتات موسيقية: "دو"، "ري"، "مي"، "فا"، "سو"، يتبعها "الليل الجنوبي العميق"، و"الأم"، و"الأب"، و"غسْل الثياب عند النهر"، و"لعب الورق في ليل الغربة الطويل"، و"دبّابة على تخوم القرية"، وبعدها "ثم يأتي الموت يتساوى فيه القاتل والقتيل"، "تقول البيوت حين قتلها المطر"، "تقول الأسنان حين قتلتها اللغة"، "يقول الشاعر حين قتلته الكتب"، "يقول رأس المعمدان فوق صحن القصّة"، "من قتل الوردة". 

هكذا يندرج تحت العنوان الكبير ما يشبه أن يكون ديواناً صغيراً، يشير إلى سيرة متعدّدة. تحت عنوان "ويكون زمن لنبلونكم بشيء من الخوف والجزع"، نجد عناوين صغيرة بعضها خطاب لامرأة: "روحك، قلبك، اسمك، شعرك، وجهك، يدك، اصبعك". هنا أيضاً ديوان للحب. أمّا القصائد الأخيرة، فيمكن أن ندرجها تحت عنوان شامل كبير هو الشعر.

الديوان بكامله يتحدث عن الشعر، يتقصّده ويرقى إليه ويعرّفه

من هنا يبدو لنا ديوان ناصر الدين، وكأنّ وراءه خطّة تجعل الكتابَ بجملته تحت عناوين ثلاثة: السيرة، الحب، الشعر. لكنّ قراءة الديوان، قصيدةً قصيدة، بما فيه من قصائد مستقلة بعناوينها، تحملنا على الإحساس بأن ناصر الدين يبتعد كذلك عن قصيدته الأولى، في مجموعاته التي سبقت. يبتعد، أو إذا شئنا دقّةً قلنا إنه يتوسّع. قصيدته في مجموعاته الأولى، التي هي في قِصَرها وتكاملها تكاد توحي بهايكو عربية، هي الآن تقفز عن ذلك وتتوسّع فيه، لكن في الوقت ذاته تتكثّف وتبتعد، بالمعنى الذي عرّف به نقاد حديثون الشعرَ. 

في قصائده هنا، فضلاً عمّا تحفل به الصورة الشعرية في البيت من هذا البُعد، فإننا لا نجدها تتّصل بما بعدها على نحو مباشر، إنها، وهي البعيدة، تقع على ما يماثلها في البُعد. المعاني هكذا لا تتسلسل ولا تتواصل، إنها، بيتاً بيتاً، تقع على بعضها البعض مع ذلك، وتتكوّن في ما بينها، وتملك في اتّصالها ما يشبه أن يكون الكتلة، وما يشبه أن يكون المعنى الواحد. ليس ذلك من تسلسلها، ولا من اجتماع معانيها فقط، لكنه آتٍ من شيء آخر يفوق ذلك ويصعد فوقه: قد يصحّ أن نقول إنه الإيقاع، قد يصحّ أن نقول إنه الشعر.

أرني وجهك أيها الهارب - القسم الثقافي

ما يوحّد القصيدة هو هذا المستوى، هو أنها، من وراء ذلك وفوقه، تصنع القصيدة، التي تملك، في حركتها الداخلية، في تواصلها وتكاملها، ما يمتّ فوراً إلى الشعر، وما يبدو جلياً غناؤه وقوامه وشكله، أو بكلمة واحدة، فضاؤه. مع ذلك فإن الشعر يهمّ بأفكار ويهمّ بموضوعات، ويهمّ ببحث وتأمُّل واستخلاصات، وما يشبه أن يكون حكمة واستشهاداً. على أننا، إذا شئنا أن نجد موضوعاً للقصيدة، سنعود إلى العناوين الكبرى التي أسلفناها: السيرة، الحب، الشعر.

يبدو جلياً غناؤه وقوامه وشكله، أو بكلمة واحدة، فضاؤه

مع ذلك قد يتراءى لنا، ونحن نتصفّح الديوان، من أوّله إلى آخره، أنه يكاد يتبحّر في موضوع الشعر: "كان صوت يعلو ويهبط في العصفور"؛ "كذلك الأشياء التافهة، حين تدخل في دم الشعر، لا تكون تافهة تماماً"؛ "تصيب الشفرة عنق الرجل، جملة شعر متينة"؛ "يبقى البارود في قلب الأم، لا الأغنية"؛ "عند موتي صفّوا كتبي كأخوة يوسف"؛ "رسمَ الشاعر زهرة عباد الشمس، سرق روحك لحظة، ثم أعادها ليجعلها تدور"؛ "الشعر التباس القسوة والرقّة"؛ "قصيدة من يدك، من كلمتين إلى أكثر"؛ "الشعر بسهولة خطّ أسنانك المستقيم"؛ "الصمم استثناء، يقع الشاعر فيه"؛ "يكتب قصيدة من جملتين"؛ "قبل السكون فلتكنِ العين، قبل العين فليكنِ المدى، قبل المدى فليكِن الشعر"؛ "لو تنتزع من القصيدة، كلمة زائدة كرصاصة في الطحال"؛ "شاعر أوّل، مزاج البرق، شاعر ثانٍ، مزاج الغضب، شاعر ثالث، مزاج الدم".

هذا بعضٌ من كلامٌ يصيب الشعر باسمه وحرفه، اخترته لذلك وليس وحده ما يتكلّم عن الشعر، أظن أن هناك سواه مَن يتكلم عن الشعر، بل أحسب أن الديوان بكامله حديثٌ عن الشعر، إذا شئنا أن نقرأه من أعلاه أو من خارجه. 

ما قطفته من قصائد الديوان يكاد يكون تعريفاً للشعر، بل نحن، إذا جلنا فيه وفي سواه، لا نعدم أن نحسّ بأن الديوان بكامله يتحدّث عن الشعر. بل هو في أسلوبه وجملته يرقى إلى ما يريده شعراً، وما يكاد يكون نظرةً أو تأمّلاً أو أمثولة في الشعر. كأني بالديوان يدور حول الشعر، لا يتقصّده ويرقى إليه فحسب، بل يسميه ويعرّفه وينظّر له. بل نحن نجده، حين يعرّج على التوراة التي يعود إليها مراراً، أو حين يقتطف من القرآن، إنما يستمدّ الشعر الذي في كلّ ذلك، بل هو في فصله الثالث، المعنون بـ"الشاعر"، يجعل الشعر حياةً وكائناً وإنساناً، فالشعر هو أيضاً الشاعر.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون