بقدر ما أنّ رواية أمين معلوف الأحدث، "أشقاؤنا غير المتوقًّعين" Nos frères inattendus (يبدو أن "دار الفارابي" البيروتية اختارت ترجمتها بعنوان "إخوتنا الغرباء") معجونة بعناصر من الخيال العلمي، بقدر ما تنتمي إلى الواقعية الفاقعة، وبقدر ما هي وجودية فلسفية، فإنها سياسية ــ أخلاقية، وهذا ليس بغريب عن أعمال حامل "جائزة غونكور" 1993 عن رواية "صخرة طانيوس". وبين الخيال والواقعية، الأكيد أن روايته الجديدة الصادرة أواخر عام 2020، حالِمة إلى حدّ اليوتوبيا، ذلك أنه يتصور حضارتنا مثلما يتمنى أن تكون: أخلاقية، فائقة القدرات العلمية، خيّرة، تؤدي واجب الإنقاذ من دون مقابل.
العالم عنده يتجه إلى الزوال أو على الأقل إلى كوارث نووية وصحية أكبر من تلك التي عشناها ونعيشها، وفجأة يأتي بشر من لحم ودم، لكن من حضارة أخرى، من أحفاد الميثولوجيا الإغريقية، فينقذون البشرية بقدراتهم العلمية الخارقة، من دون أن يكون في بالهم أي طموح بالسيطرة وفرض التبعية والهيمنة وإهانة كرامة حضارتنا العاجزة. ومع ذلك، فإن ردّة فعل ناسنا وهوياتنا القاتلة ونزعاتنا القومية وجماعة السيادة، تبقى متوجسة منهم حتى القتل.
ولئن كان الموت حتمياً بالنسبة إلى حضارتنا، فإنه لم يعد كذلك بالنسبة إلى "أشقائنا غير المتوقعين"، فقد تمكنوا، في مكان ما من عالمنا، لا نعلم عنوانه، من تطوير الطب وبقية العلوم بشكل أصبح الرحيل عن دنيانا أمراً يمكن تفاديه، وصار عند هذه الحضارة الأخرى، وهي تعيش على كوكبنا نفسه، وزمننا نفسه، علاج طبي لكل الأمراض وللشيخوخة حتى، وصار العمر قابلاً لأن يمتدّ إلى ما لا نعرف حدوداً له من دون أي إشارة إلى الفكرة الدينية للخلود في عالم آخر. وما الذي قد يشكّل صدمة وإرباكاً أكبر من هذه الحقيقة لحضارتنا التي ظنّت طويلاً أنها ختمت العلم وأنجزت كل فصول التقدم؟
يبدو معلوف حائراً، في عمله هذا، بين الروائي والمؤرّخ
يبدو أمين معلوف (72 عاماً) في روايته المكتوبة بالفرنسية (دار نشر Grasset) حائراً بين المؤرخ والروائي. المكان: جزيرة متناهية الصغر على أرخبيل مطلّ على المحيط الأطلسي في مكان ما من غربي فرنسا. جزيرة معزولة عن العالم ومتصلة به في آن واحد، من خلال حركة المد والجزر التي تسمح بعبور ساكنَي الجزيرة منها وإليها. البحر والحضارات البحرية بطلان ضمنيان للأحداث، وذلك يبدو منطقياً نظراً إلى شدة تأثر معلوف بكل ما يتصل بالحضارة الأثينية البحرية، وبالمعجزة الإغريقية الحديثة، البَحرية أيضاً، فترى أبطال القصة (النباتيّين، بالمناسبة) يظهرون ثم يختفون من البحر وفيه، من خلال المستشفيات الآتية على ظهر السفن لتقديم العمر المديد بمجرد إدخال المرضى في "نفق الشفاء" العجيب.
عمر القصة شهرٌ واحد يتوقف فيه الانشغال بهموم الحياة مثلما نعرفها، من 9 نوفمبر/تشرين الثاني حتى 9 ديسمبر/كانون الأول من عام ما، لكنه ليس ببعيد، قد يكون اليوم أو غداً، فكل عدةّ شغلنا (الإنترنت خصوصاً) تحتل مكانة رئيسية في حبكة الحكاية. معالم الكارثة التي تهدّد البشرية بالفناء، طريفة: يستفيق الراوي، رسام الكاريكاتير أليك (Alec)، الخمسيني وجارته الوحيدة إيف (Eve) الروائية الثلاثينية على الجزيرة النائية، بلا معرفة تجمع بينهما، ليكتشفا أن كل ما يتعلق بالتواصل والاتصالات (من الراديو والتلفزيون وكل وسائل المواصلات والكهرباء والإنترنت... أي كل شيء عملياً) معطّل بالكامل، فيخشيان أن يكون ذلك ناتجاً من كارثة نووية، ذلك أنه في تلك الفترة، كان العالم، والغرب تحديداً، يعيش تهديداً نووياً. سنعرف لاحقاً أن تعطيل كل شيء كان من فعل أشقائنا أحفاد الإغريق، لكن ليس لتخريب حياتنا، بل على العكس تماماً، لإنقاذ حضارتنا من الزوال بفعل الاصطدام النووي الوشيك.
الرواية منشورة أواخر عام 2020، ولكنها مكتوبة قبل ظهور الوباء الكبير (كورونا)، لا بل قبل كتابة ونشر كتابه السابق "غرق الحضارات" (أواخر 2019) بحسب ما يفصح معلوف نفسه في مقابلة على قناة مكتبة "مولا" الفرنسية على "يوتيوب". مع ذلك، فإنها نموذجية لتتناسق مع ظروف وسياق الوباء الذي تعيشه البشرية منذ نُشرت الرواية، ويا لصدفة التزامن. كذلك فإنها مكتوبة طبعاً قبل الانتخابات الأميركية الأخيرة التي قد تكون الأغرب والأخطر في تاريخ الولايات المتحدة وربما العالم. ولكن الكتاب مليء بالإحالات إلى خطر الشعبوية والنزعة القومية ومجموعات التفوّق الإرهابية في أميركا ممن هاجموا سفن الشفاء الإغريقة وقتلوا منهم تسعة أطباء وأكثر من 100 مواطن أميركي، كجواب وحيد امتلكوه ضد حقيقة أن منقذي البشرية من الكارثة النووية ومن الموت الحتمي بسبب المرض والشيخوخة، هم أرقى أخلاقياً وعلمياً من ناسنا.
"أشقاؤنا غير المتوقعين" رواية تغرف من فكرٍ هيغلي يعيد كل أوجه الحضارة إلى الإغريق، من العلوم إلى المسرح والديمقراطية والفلسفة، بما يمكن أن يُصطلح على تسميته "المركزية الإغريقية" التي يرى مفكرون كثر أنها مبالَغ بها، وأنها تنطلق من خلفية أيديولوجية تتجاهل مساهمات ثقافية هائلة قدمتها حضارات عديدة أخرى مثل العرب والفراعنة، قبل الإغريق وبعدهم، قبل 24 قرناً وبعدها. وما أسماء العلم للأشقاء اليونانيين أبطال الرواية، إلا تكثيفاً تاريخياً لذهول معلوف أمام الحضارة الإغريقية: تجدهم يحملون أسماء أغاميمنون Agamemnon (ملك من أبطال حرب طروادة في إلياذة هوميروس)، وديموستين Demosthene (السياسي الأثيني والخطيب المفوَّه في القرن الرابع قبل الميلاد) وبوزانياس Pausanias (أحد رموز انتصار الإغريق ضد الغزو الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد) وأمبيدوكل Empedocle (الفيلسوف الإغريقي الشهير) والملكة إلكترا (ابنة الملك أغاميمنون) وغيرهم.
عند هؤلاء القوم، الموت لا يُقابل بعاديّةٍ مثلما هو حالنا، ذلك أنه نادر الحدوث عندهم، وعندما يموت أحدهم، تكون نكبة مكتملة الأركان. هكذا، يتمنى معلوف، من خلف راويه، أن يصل الطب عندنا إلى مستوى إطالة العمر إلى حدود قصوى، وهذا ما لا يمنعه من وضع "حكمة" على لسان كبير أطباء "أشقائه"، بوزانياس: "من دون الصراع مع الموت، تفقد الحياة بُعدها التراجيدي، ولا تبقى لها النكهة نفسها"، قبل أن تخرج منه نبوءة "كورونية" (للتذكير الرواية مكتوبة قبل ظهور وباء كوفيد)، فيقول في الصفحة 254: "تصوروا فيروساً قاتلاً يضرب العالم من دون أعراض".
أجواء "أشقاؤنا غير المتوقعين" فيها ملامح من عملَيْ أمين معلوف (72 عاماً) السابقين، "الهويات القاتلة" (1998) و"غرق الحضارات" (نهاية 2019)، خصوصاً لجهة التشاؤم الذي لا يفارق الراوي حيال أحوال عالمنا، إلى حدّ يلامس اليأس، قبل أن تظهر معجزة ما تحيل دوماً إلى تفاؤل بقدرة الإنسان على إنقاذ نفسه وغيره في اللحظة الحاسمة قبل الزوال. دائماً هناك أمل حالِم عند أمين معلوف، الروائي والمؤرخ اللبناني ــ الفرنسي، وعضو "الأكاديمية الفرنسية"، هو الذي يعتبر أن أعظم ما حصل في الكرة الأرضية طيلة العقود الماضية هو البناء الأوروبي أو كما يحلو له تسميته "الحلم الأوروبي" ممثَّلاً باتحاد القارة.
أجواءٌ تذكّر بعملَيْه "الهويات القاتلة" و"غرق الحضارات"
"أشقاؤنا غير المتوقعين" يغيب عنها "الفلاش باك". تسير في خط بياني تصاعدي ومستقيم نحو الذروة، وقليلا ما تعبأ بالإكثار من القصص الفرعية، وتبقى الشخصيات الأساسية فيها قليلة، وكل الأحداث تدور حولها أو من خلالها. أحد هؤلاء الشخصيات، الرئيس الأميركي الذي يختار له الكاتب اسم هوارد ميلتون. ولماذا الرئيس الأميركي؟ أولاً لأنه رئيس أقوى بلد في العالم، بالتالي هو رمز الحضارة الغربية المهيمنة التي تدور أحداث القصة حول انكسارها وافتضاح أمرها على اعتبارها أضعف بما لا يقارن من تلك الآتية من ماضي الإغريق لتنقذ بشريتنا من الاصطدام النووي ومن الأمراض والشيخوخة والأوبئة والموت. ثانياً لأنه يجسد بحيرته حيال قبول المعجزة، كل التردد الذي يمكن أن يصيب أيّ فرد من "حضارتنا"، إزاء احتمال تلقيه هدية النجاة من الموت والشفاء من المرض من قبل حضارة أخرى ناسها بشر من جنسنا، لا هم ملائكة ولا آلهة.
أما إثارة نائب الرئيس (غاري بولدر) في الصفحات الخمسين من الرواية، فتلك شأن آخر متروك لمتعة قراءة الرواية. وثالثاً لضرورات روائية بحتة، ذلك أن مورو، صديق الراوي أليك زندر (Alec Zander)، هو مستشار هام للرئيس الأميركي، وهذا الصديق يخبر أليك بكل تفاصيل مفاوضات البيت الأبيض مع المنقذين اليونانيين من جهة، وأسرار المواجهة النووية التي كادت تقضي على البشرية لولا ظهور الأشقاء أنفسهم من جهة ثانية، قبل اختفائهم. وعن الاختفاء العجيب، يقول معلوف، على لسان راويه الحائر أيضاً حيال ظاهرة الأشقاء المنقذين: "لقد أتوا، لقد انتصروا علينا، نفخوا في العالم ريح القلق والأمل، ثم غادروا..."، رباعية انكسارية كأنها تقابل الثلاثية الانتصارية الشهيرة ليوليوس قيصر: أتيتُ، رأيتُ، انتصرتُ (veni vidi vici).
في "أشقاؤنا غير المتوقعين"، مساحات واسعة لكل أشكال الفانتازيا والمنطق والسياسة والفلسفة وصنعة الكتابة بالفرنسية، المتمكنة للغاية لدى صاحب "الحروب الصليبية كما رآها العرب". فيها خاتمة غريبة عجيبة قد يجدها كثيرون خارجة عن سياق القصة أو بالعكس، تكريساً لها. فيها أمكنة رحبة للأمل بالبشرية، وليأس كبير منها. فيها تصوّر عالم تنقلب فيه الأولويات: المال والهرميات الاجتماعية والسلطة والوقت والعمل وموازين القوى يمكن أن تصبح، في لحظة ما، أكثر من هامشية عندما يلوح أمل من وزن ما يحمله المنقذون اليونانيون. في الرواية، راهن ومستقبل وهوس بالتاريخ لا نلحظه مع أنه يسكن كينونة معلوف، المؤرخ والروائي.
لطالما قيل إن أسوأ ما يمكن أن يحدث مع الموسيقى هو الكتابة عنها بدل الاستماع إليها، وربما يكون ألطف ما في "أشقاؤنا غير المتوقعين" هو قراءتها بدل الكتابة عنها.
* مدير تحرير "العربي الجديد"