أيديولوجيا تمحو الهوية: في التخلّص من التراث المعماري الشرقي بالبلقان

07 ابريل 2022
جامع يوسف افندي قبل هدمه في 1953
+ الخط -

هناك قرن فاصل في تاريخ الدولة العثمانية يمتدّ من منتصف القرن الرابع عشر إلى منتصف القرن الخامس عشر، وبالتحديد من انتقال أوّل قوة عثمانية من البر الآسيوي إلى البرّ الأوروبي وحتى فتح القسطنطينية في 1453. في تلك الفترة انفتح البلقان أمام توسع سريع للدولة الجديدة بعد انهيار الكيانات التي مثلت أمجاد القرون الوسطى في بلغاريا ومقدونيا وصربيا، مما فرض نقل عاصمة الدولة من آسيا (بورصة) إلى أوروبا (أدرنة) في 1370. ومع هذه الحالة، أصبحت معظم أراضي الدولة العثمانية في أوروبا ومعظم سكانها من المسيحيين. صحيح أن الدولة العثمانية بعد فتح القسطنطينية توسعت نحو الجنوب لتضم إليها كلَّ الأناضول وبلاد الشام ومصر والحجاز خلال 1516-1517، إلا أن الدولة العثمانية تابعت توسعها في أوروبا بضمّ المجر في 1526 وحصار فيينا في 1529.

وبالمقارنة مع المنطقة العربية، شهد البلقان تغيرات ثقافية كبيرة مع انتشار الإسلام شملت نشوء مدن جديدة تحول بعضها إلى عواصم لاحقاً (سراييفو في البوسنة وتيرانا في ألبانيا)، وعكست الثقافة الجديدة في العمارة (البيوت والجوامع والمدارس والحمّامات إلخ)، واللباس والطعام والشراب (انتشار المقاهي)، ليصبح في الإمكان الحديث عن "تشرّق البلقان" الذي صار يدخل في الخرائط الأوروبية ضمن "الشرق الأدنى". وبالنسبة إلى حدود هذا "الشرق الأدنى"، فقد كان حدّه الغربي البحر الأدرياتيكي، بينما كان حده الشمالي مدينة بلغراد على ملتقى نهرَي سافا والدانوب، والتي كانت آخر مدينة عثمانية بينما كانت على الضفة الأخرى تبدأ حدود النمسا. وهكذا كان الرحالة الأوروبيون يشبّهون بلغراد، حتى مطلع القرن التاسع عشر، بدمشق، ويطلقون عليها "بوابة الشرق"، على اعتبار أنهم مع وصولهم إلى بلغراد يشعرون أنهم عبروا الغرب ودخلوا في الشرق.

حلَّ فندقٌ حديث مكان "جامع يوسف أفندي" في بريشتينا

في ما بعد، أصبحت بلغراد عاصمة لصربيا المستقلة في 1878، ثم عاصمة لمملكة يوغسلافيا في 1918، وعاصمة لجمهورية يوغسلافيا في 1945. ومع حكم الأيديولوجيا القومية في يوغسلافيا الملكية أو الشيوعية في يوغسلافيا، كان المشترك هو التخلّص العنيف أو الهادئ من المسلمين اليوغسلاف والألبان ومن منشآتهم بحجة "التحديث العمراني" حتى 1966. وهكذا لم يعد من "بوابة الشرق" سوى جامع واحد محشور بين الأبنية سَلِم وفُتح للصلاة مع انعقاد أوّل مؤتمر لدول عدم الانحياز في بلغراد عام 1961، بينما شهدت عواصم الكيانات الأخرى في يوغسلافيا الفدرالية "جرأة أكثر" غيّرت معالم مدن، ومن ذلك بريشتينا عاصمة كوسوفو.


أول جامع في غرب البلقان
ارتبط اسم كوسوفو بمعركة "سهل كوسوفو" المشهورة في حزيران/ يونيو 1389 قرب بريشتينا بين القوات العثمانية وحلفائها من الحكام المحليين وبين القوات الصربية وحلفائها من الحكام المحليين، والتي انتهت بمقتل السلطان مراد الأول والأمير الصربي لازار وخضوع المنطقة للحكم العثماني غير المباشر. وفي هذا السياق، بنى السلطان الجديد بايزيد الأول في بريشتينا، التي كانت مدينة صغيرة، جامعاً اشتهر لاحقاً باسم "جامع السوق"، نظراً لأن الجامع كان المركز الجديد الذي يجذب حوله السوق والحمام والبيوت الجديدة، وهو الجامع الذي ما زال قائماً في موقعه، ولكنه يفصل الآن بين "بريشتينا العثمانية" و"بريشتينا الجديدة".

كانت بريشتينا قد حافظت على طابعها العثماني الغالب خلال العهد الملكي اليوغسلافي، بينما بدأ العهد الشيوعي بتطبيق "تحديث عمراني" جريء بعد سحق "أعداء الشعب" في 1945 باسم الأيديولوجيا الجديدة التي بشّرت الشعب بالكثير. وهكذا اعتُبر "جامع السوق"، المحاذي للطريق الرئيس الذي يشق بريشتينا من الشمال إلى الجنوب، الحدَّ الفاصل الذي يجب أن تنتهي فيه "بريشتينا العثمانية" وتبدأ "بريشتينا الجديدة" باتجاه الغرب والجنوب.

فندق "بوجور" الذي اكتمل بناؤه مكان جامع يوسف أفندي عام 1960
فندق "بوجور" الذي اكتمل بناؤه مكان جامع يوسف أفندي عام 1960

وفي هذا الإطار الجديد المفترض لـ"بريشتينا الجديدة"، كان هناك قلب "بريشتينا العثمانية" المتمثل بالبازار الذي يقوم في جواره "جامع يوسف أفندي" (من 1551)، وكنيس لليهود وكنيسة كاثوليكية. وقد بدأ هذا "التحديث" في 1951 ببناء "المسرح الشعبي" على النمط السوفييتي مقابل البازار بين "جامع يوسف أفندي" و"فندق أونيون" الذي بُني في 1926، والذي كان مقدّمة لهدم "جامع يوسف أفندي" والكنيس والكنيسة الكاثوليكية في 1954 ثم معظم البازار، والتخطيط لبناء فندق حديث مكان الجامع يليق بالرئيس تيتو حين يزور المدينة. وكان تيتو قد اكتفى بالتوقف في محطة القطار بضاحية بريشتينا عام 1950 وإلقاء خطاب في الجمهور المحتشد من عربة القطار بحجة عدم وجود فندق لائق.


من الشمولية إلى الديمقراطية
وبالفعل، فقد بُني مكان الجامع في 1960 "فندق بوجور" الذي خُصّص فيه جناح للرئيس تيتو عندما يزور بريشتينا، ولكن تيتو لم يزر بريشتينا إلا في 1979 ونزل في أول فندق خمس نجوم بُني في المدينة (فندق غراند)، التي كانت قد توسعت كثيراً باتجاه الغرب والجنوب لتكون "بريشتينا الجديدة" التي تمثّل وُعود الأيديولوجيا الجديدة بمساكن ومدارس وكليات جامعية ومستوصفات ومستشفيات إلخ...

لم توافق بلدية المدينة بعدُ على مخطط بناء "الجامع الكبير"

بعد انهيار يوغسلافيا حتى حرب 1999، أخذت الدول التي ورثتها شرعيتها من الديمقراطية، ونجحت بعض المؤسسات الدينية في استرداد أو تعويض بعض ما صودر من أملاكها أو ما هُدم من منشآتها. وفي هذا السياق جاءت موجة الخصخصة للتخلص من كافة رموز العهد السابق لتطلق المجال لـ"الرأسمالية المتوحشة"، كما أصبحت تُسمّى، لتشتري وفق تفاهمات ضمنية منشآت القطاع العام السابق بأرخص الأسعار. ومن ذلك كان مصير "فندق بوجور" الذي بُني مكان "جامع يوسف أفندي"، الذي اشتراه عام 2006 رجل أعمال صاعد (بهجت باتسولي) أصبح يُعتبر المليونير الأول في كوسوفو ومؤسّس "البنك الاقتصادي" الملاصق للمسرح. وقد توهّم بعض الألبان، الذين يعتبرون أنفسهم ضحية ليوغسلافيا السابقة، بأن يقوم النائب الجديد في البرلمان الكوسوفي (الذي كان يحرص على الصيام في رمضان)، بإعادة بناء "جامع يوسف أفندي" في موقعه الأصلي.

فندق سويس دياموند الجديد
فندق "سويس دياموند" الجديد، وإلى جانبه البنك الاقتصادي الملاصق للمسرح (العربي الجديد)

ولكن بعدما جرى الإعلان عن بناء أول فندق خمس نجوم في بريشتينا (بعدما تراجع "فندق غراند" إلى أربع نجوم)، باسم "فندق سويس دياموند"، تحمّس أحد الزملاء وكتب له رسالة في 2016 توضّح موقف الفقه الإسلامي حول بناء فندق تُشرَب فيه الخمور مكان جامع معروف، وأنه ما زال في الإمكان تعويض ذلك بأشكال مختلفة، ولكن لم يصل أيّ رد للزميل على رسالته.

في السنة التي افتُتح فيها الفندق، جرى وضع حجر الأساس لـ"جامع بريشتينا الكبير" في بريشتينا الجديدة التي بُنيت خلال العهد الشمولي، وذلك بحضور رئيسة الجمهورية ورئيس الوزراء ومفتي كوسوفو، بعدما تضاعف عدد سكان بريشتينا عدة مرات دون أن يُبنى جامع جديد. ولكن الوعود والسنوات مضت، وها قد مرّت عشر سنوات على وضع حجر الأساس لتفاجئنا الصحافة الكوسوفية الآن (جريدة "إكسبرس"، 31 آذار/ مارس 2022)، بأن بلدية بريشتينا لم توافق حتى الآن على مخطط بناء الجامع، ولذلك على المسلمين في السنوات اللاحقة أن يصلّوا في الشوارع حول جوامع بريشتينا القديمة أيام الجمع والعيدين.

مشهد بريشتينا الحالية يمثّل حالة "الحرية" التي تلت حرب 1999 أو "الفوضى العمرانية" التي جاءت باسم الديمقراطية وجعلت حتى "بريشتينا العثمانية" تفقد هويتها الأصيلة. وفي هذا السياق يبدو "جامع يوسف أفندي"، الذي كان حتى 1953 من أقدم وأجمل الجوامع في بريشتينا، ضحية مرتين: للأيديولوجيا الشمولية التي هدمته باسم "التحديث"، لبناء فندق يعبّر عن العهد الجديد، وللديمقراطية الجديدة التي انتقدت الأُولى على ما فعلته ثم بنت مكانه باسم "التحرّر" من العهد السابق فندقاً أحدث يعبّر عمّا تغيّر من قيم وشعارات ووعود بين عهدين.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون