أن تطير مجّاناً، ذات صباح، من أي بلد عُرباني، لأوروبا الخضراء والشقراء، أمرٌ فوق العادة لا شكّ. لكَم حلمت به واقفاً وجالساً وتركت جثّته تحت الملاءات وعليها علامات الاكتئاب من عدم التحقّق. إلى بلد آخر، أي بلد آخر، ولو كان الدومينيكان. المهمّ الخروج من الجحيم، مرّة واحدة وللأبد. وهناك ربّك يُيسرها، وتعيش راضياً كيفما يتّفق.
يا له من حلم رافقك منذ أول فترة المراهقة، ولم يتحقّق سوى بعد نحو أربعين عاماً. واليوم، بعدما أقمتَ في القارة الموعودة عشر سنوات، ها أنت تعضّ أصابع الندم. فلا هجرة لشاعر ولا هجرة لشخص عادي كبير السن، سهواً. عشر سنوات كانت كفيلة أن تريك وجه أوروبا الحقيقي. عالم البشر ـ السيستيم والبشر ـ الروبوتات والبشر حاسِبي السنت كمصدر وحيد للحياة. عشر سنوات احتجت فيها لتجمع شجاعتك وتبحث في أوراق المرئيّ الأجنبي وغير المرئي. وبعدها لم يبق غير الاعتراف: مفيش فايدة من أوروبا لاثنين بالأخصّ: الشاعر والإنسان كبير السن. وأن هذه هي نهاية الحلم: جثّة مقتولة.
وعليه لا مناص من أن تفهم، وتأْمل من سواك، ممّن تراوده أحلام الهجرة ولم يستطع هجران البلد الأصلي، أن يفهم. إذن، فإنّ الشخص الحالم لو تحقّق حلمه، سيقابل هناك، في أرض الألدورادو الخُلّب، أشخاصاً آخرين من ثقافة مختلفة. سيقابل غير المتوقّع، المختلف، الوعر والصعب. وحينها أمامه خياران: إما الإجرام أو الجنون. ولأنه لا يستطيع الخيار الأول، فعليه بالثاني، كونه يضرّه شخصياً ولا يؤثر في الآخرين. أليس هكذا تفعل دوائر الهجرة الأوروبية بالمهاجر واللاجئ والنازح؟
ترميه مثل الكلب سنوات ثلاثاً وأربعاً وخمساً وستّاً في مخيّمات اللاجئين، وسط ظروف لا تليق بالحيوان، ثم بعد هذا ترميه بكتاب الطرد.
وعليه، آن وقت مواجهة الذات والموضوع. وعليه: أيها اللاجئ افتح الصناديق وأخرجِ الأسرار. ولا بد ّستجد الكثير من بين الرسائل المرسلة إليك والمراد إرسالها لسواك من بني قومك، الحالمين بالخروج من بوابة الجحيم. ذلك أنك، بسبب من الصدفة، من بلاد تنتج النفط وتصدّر اللاجئين، هنا. مع أنك من كتاب الهواء، ويكفيك فقط جزء صغير من الحكمة والجمال اللذين طوّرهما البشر عبر التاريخ ووصلا إلى عصرنا في شكل مكتوب أو مسجل، ولا تطمع بأكثر. وكلّما تذكرت، أنه في مراحيض إفسس، جالساً في دائرة، تحدّث فيثاغورس إلى تلاميذه عن تناغم الأرقام، تبتسم. لقد قال لهم إن النجوم هي امتداد للحساب والهندسة، لكنّ الكثير من حكمته تلاشى ولم يصلنا.
تلك الفتاة الرقيقة ذات الزهرة من جزيرة ليسبوس، التي أعربت عن رغبتها، مستلقية على السرير الناعم، ألهمت سافو قصائد نبيلة ضاعت أيضاً. مَن يدري كم عدد العلامات الغامضة في هذا الكون الشعري؟
هل كنت ستكتب لهم لو لم تر وجه أوروبا المخفي؟ ولا تتذكّر ما إذا كانت كلّ نغمة تميّز موضوعاً، ساعة السحر، أو إذا كان قوس قزح منتَجاً عشوائياً لتلك القراءة الأولى المليئة بالقلق، للأفق.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا