أُمنية الشاكري: صورة جانبية لفرويد العربي

03 مايو 2022
أُمنية الشاكري
+ الخط -

في تقديمه لطبعة عام 2014 من ترجمته لكتاب سيغموند فرويد، "محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي" (دار "مدارك")، يكتب جورج طرابيشي أنه "ليس لأي ثقافة معاصرة أن تفتح لنفسها قفْل الحداثة وهي تفتقد مفتاحاً أساسياً من مفاتيحه". المفتاح القصود هنا هو التحليل النفسي، "الفرويدي منه وغير الفرويدي على حدّ سواء". أمّا كلام المفكّر والمترجم السوري (1939 - 2016)، فيأتي في سياق تعليل خياره، قبل نحو خمسة عقود، نقْل أعمالٍ لفرويد من لغةٍ وسيطة (الفرنسية)، في مسعىً منه، هو الذي لا يجيد الألمانية، إلى الحدّ من "القطيعة" بين الثقافة العربية وبين "الفتْح العِلميّ الكبير الذي مثّلته الفرويدية".

قد يتّفق المرء أو يختلف مع المعيارية التي تحكم كلام طرابيشي. لكنّ الاختلاف معه يصبح أكثر صعوبةً عندما نأتي إلى الحديث عن تشخيصه لـ"القطيعة". صحيحٌ أن عدداً من الكتابات التحليلية قد قطع الطريق إلى العربية منذ عقود، بل إن بعض المقولات التحليل ـ نفسية قد نفَذَتْ حتّى إلى الكلام اليوميّ (ليس غريباً أن ترد في محادثاتنا مفردات العصاب والكبت وعقدة أوديب والليبيدو...). لكنّ النقاشات العربية الجادّة مع فرويد وتابعيه تكاد تقلّ عن عدد أصابع اليد الواحدة. بل إنّ القرّاء العرب لا يحظون منه، حتى اليوم، إلّا بـ"المؤلّفات شِبه الكاملة"، التي تضمّ ما ترجمه عنه طرابيشي (أكثر من ثلاثين عنواناً). ويُخشى أن تكون كلمةُ "شِبه"، هذه، وصفاً موجزاً لعلاقة العربية ليس بفرويد فحسب، بل بتاريخ وراهن التحليل النفسي بشكل عام.

إزاء كلّ هذا، يصبح ظهور أيّ نقاش عن التحليل النفسي، أو أية ترجمة منه، أمراً مرحَّباً به. ترحيبٌ يتضاعف حين يكون سياق النقاش عربيّاً، كما هو الحال مع كتاب أُمنية شاكري: "فرويد العربي: التحليل النفسي والإسلام في مصر الحديثة"، الصادر أخيراً عن منشورات "الكتب خان" بترجمة محمد الدخاخني (صدر أساساً بالإنكليزية عن "منشورات جامعة برينستون" عام 2017).

ترفض وجود قطيعة بين الثقافة العربية والتحليل النفسي

ولنقُلْها منذ الآن: رؤية الشاكري تتعارض تماماً مع تشخيص طرابيشي حول وجود قطيعةٍ بين الثقافة العربية والتحليل النفسي. ما يشغل الباحثة المصرية الأميركية ليس إطلاق حُكم عام ومجرّد، من موقع نقديّ، على مجمل المشهد، بل التأريخ لجانب منه ومناقشته انطلاقاً من الوثائق والتحليلات. والوثائق تشير إلى أنّ "مفاهيم اللاشعور" قد "دلفت" إلى "الكتابات العربية في مصر منذ فترة مبكّرة تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، ومن خلال عددٍ لا يُحصى من المصادر"، كما تكتب المؤلّفة.

على أنّ هذا التلقّي المبكّر للفرويدية ليس الأهمّ في رأيها: الأهمّ أنه لم يكن تلَقّياً ببغائياً، أو ربما لم يكن تلقّياً بالمعنى الشائع للكلمة، بل سلسلة من "التفاعلات التاريخية والتهجينات وشبكات إنتاج المعرفة المترابطة بين العالم العربيّ وأوروبا". فالتحليل النفسي "جسمٌ معرفيّ" لا يخصّ أوروبا وحدها، بل يساهم في تشكيله وإحيائه "غيرُ الغربيين" من عرب ومسلمين وغيرهم. ما يعني أن "حكاية الجهل المتبادل" بين الثقافة العربية والإسلام من ناحية، والتحليل النفسي من ناحية أُخرى، ليست إلّا أسطورةً. أسطورةٌ تقوم على فرْزٍ للمعارف ترفضه الشاكري: ذاك الذي يفصل بين خطابات وتعبيرات ثقافية "تقليدية" وأُخرى "حديثة". بدلاً من هذا التوزيع الهرميّ، تفضّل الباحثة فهْماً أفقياً، دائرياً، تتجاور فيه المعارف وتكون فيه موضوعاً لـ"إعادة قراءة متواصلة". وبدلاً من القطيعة، تبحث عن نقاط التلاقي، عن التفاهم والترجمة المبتادلة.

تحدّد المؤلّفة مجال بحثها بما يُعرَف بجماعة عِلم النفس التكامليّ، التي تكوّنت حول عالم النفس المصري البارز يوسف مراد (1902 - 1966) - الشخصية المحورية في كتابها. صحيحٌ أن الشاكري تتحرّك في مساحةٍ أوسعَ نسبياً من المراجع الثانوية (منشورات شعبية وأكاديمية مصرية وغربية، وكتابات تاريخية ونقدية ذات توجّه ما بعد كولونيالي على وجه التحديد)، إلّا أنها تشتغل بشكلٍ أساسيّ على متنٍ واحد، هو "مجلّة علم النفس" (صدرت بين 1945 و1953) التي حرّرها مراد مع زميله، البارز أيضاً، مصطفى زيور، وكتب فيها، بشكل أساسي، أعضاء الجماعة. وكلّ واحدٍ من فصول الكتاب الأربعة يدور، أساساً، حول نصٍّ أو مجموعة نصوص نُشرت على صفحات المجلّة. متنٌ محدودٌ يمكن القول إنه - على أهمّيته - لا يساعد الكتاب على الإيفاء بما ينتظره القارئ من عنوانٍ واسع مثل "فرويد العربي".

تعوّض الكاتبة هذا الضيق في المتن والجغرافيا بتنقّلات ضمن هامش تاريخيّ أوسع؛ يساعدها في ذلك أن عدداً من النصوص والشخصيات التي تدرسها يُحيل إلى التراث الصوفي الإسلامي. وليست هذه الإحالات صدفةً. فالصوفية تمثّل، بالنسبة إلى الشاكري، محوراً أساسياً و"نقطة دخول ملائمة" للعلاقة بين الفضاء العربي ـ الإسلامي والتحليل النفسي. ذلك أن الصوفية، مثل الفرويدية، فكّرت بالنفس. وهذه، مثل تلك، انشغلت بالعلاقة بين ظاهر النفس وباطنها، باللقاء أخلاقياً مع الآخر، وبمركزية اللاشعور وتبعية الذات على حساب العقلانية والاستقلالية.

فرويد العربي

تشير المؤلّفة إلى أنّ مصطلح اللاشعور هذا، الذي اقترحه يوسف مراد ترجمةً للمفهوم الفرويدي، هو استعادةٌ معاصرة لمفهوم صوفيّ طوّره ابن عربي. أمرٌ تضعه في ميزان التفاعلات التاريخية وتهجينات المعارف. فالتحليل النفسي يُعيدنا إلى تراثنا لنكتشف أنّ الأخير يزوّدنا بما يساعدنا على فهم فرويد. بل إننا، بهذه العودة، نكتشف أيضاً أن تراثنا في حوارٍ مع هذه الفرويدية - حتى قبل ولادتها. على سبيل المثال، كلاهما يبني خطاباً حول ضبط النفس (جهاد النفس عند المتصوّفة، والتسامي أو التصعيد عند فرويد). ما يعني، بحسب المؤلّفة، أن "الأخلاقيات الفرويدية الحداثية لم تكن مناقضة للخطاب الإسلامي، ولكن في الواقع مكمّلة له".

لا شكّ أنّ لهذه القراءة جاذبيّتها، لكنّنا نخشى أن تكون قائمة على تقاربات في الشكل أكثر منها في المضمون. ولإعطاء مثال على ما يدعم هذه الخشية، يمكن العودة إلى واحدة من نقاط التشابه بين الصوفية والتحليل النفسي التي يثيرها أبو الوفا الغنيمي التفتازاني على صفحات "مجلّة علم النفس"، وهي نقطة تُفرد المؤلّفة مساحةً لا بأس بها لنقاشها والدفاع عنها: التشابه في العلاقة بين الشيخ والمريد من ناحية، والمحلِّل والمحلَّل له من ناحية أُخرى. يمكن تكثيف المحاججات التي تقدّمها المؤلّفة، في هذا السياق، بواحدةٍ جامعة: أن المريد/ المحلَّل له يبحث عن خلاص، وربما يستطيع الحصول عليه، على يد الشيخ/المحلِّل. لكنّ الكيفية التي قد يجري من خلالها ذلك مختلفةٌ تماماً بين هذه العلاقة وتلك، وهذا الاختلاف الجذريّ حريّ بإضعاف كلّ مقارنة بينهما. فالدَين الأخلاقي والرمزي، أو الأبويّ، الذي يدين به المريد إلى الشيخ، غير موجود في العلاقة بين المحلِّل والمحلَّل له، القائمة على اتفاق واضح، ومنفعة متبادلة (المقابل المادّي مقابل شفاء ممكن)، لا على تقبّل طرفٍ لإحسان الآخر. كما أن علاقة المحلِّل بالمحلَّل له تُبنى على، أو تهدف في أقلّ الأحوال إلى، تفكيك الأبويّ أو السلطويّ الذي يواجهه الأخير. يُضاف إلى ذلك أن التزام المحلِّل الإنصاتَ إلى المحلَّل له من دون إصدار حُكم عليه، ومن دون توجيهه، يظلّ معاكساً لرغبة الشيخ في إرشاد المريد ورسْم طريق له لكي يسلكها. بعبارةٍ أُخرى، لا تشبه الحرّية التي يتمتّع به المحلَّل له أمام المحلِّل تلكَ التي تتّصف بها العلاقة بين الشيخ والمريد.

يمكن أخذ مثالٍ آخر على هشاشة التقاربات التي تقيمها المؤلّفة بين الصوفية والتحليل النفسي: أي ذلك المتعلّق بتفضيل يوسف مراد، وآخرين، ترجمة psychology بـ"علم النفس". ترى الشاكري أن اختيار كلمة "النفس" كمقابل لـpsyche يرتبط "ارتباطاً وثيقاً" بمعانٍ تقوم على "استدعاءات إسلامية كلاسيكية للمصطلح عند ابن عربي وغيره". هنا، لا تولي الكاتبة اهتماماً إلى أن الكلمة سابقة على كلّ استدعاء إسلامي وصوفي، فهي ترِد - بمعناها الذي نعرفه اليوم - في أشعار عربية سبقت ظهور الإسلام بأربعة قرون، بحسب "معجم الدوحة التاريخي". يُضاف إلى هذا أن الخيار لا يحتاج إلى خلفية صوفية ليجد تبريراً: فكلمة "نفْس" في العربية - السابقة، إذاً، بمعناها الذي نعرفه، على كلّ إحالة إلى ابن عربي أو الصوفية - تبدو الترجمة الأكثر دقّة، دلالياً وتأثيلياً، لـpsykhe في الأصل اليوناني، التي تحيل أيضاً إلى النفْس والنفَس في الآن ذاته.

يقود إصرار المؤلّفة على إيجاد تفاعُل، ونقاط التقاء، وتكامُل، بين التاريخ العربي ـ الإسلامي والتحليل النفسي، إلى السؤال التالي: ماذا عن الحاضر العربي؟ سؤالٌ يخفي وراءه آخرَ: هل العودة إلى الماضي سببُها تعذُّر إيجاد ما نبحثه عنه في الحاضر؟ أم أنّ المتن الضيّق الذي حدّدته المؤلّفة لنفسها لا يزوّدها بالنظرة اللازمة، الواسعة، للعثور على تفاعل كهذا بين المؤلّفين العرب المعاصرين والتحليل النفسي؟

نميل إلى الاحتمال الأخير. خصوصاً أنّنا نعثر، حين نوسّع المنظور قليلاً، على أسماء شاركت في تلقّي وصياغة التحليل النفسي عربياً، وفي الإضافة إلى نقاشاته المعاصرة داخل العالَم العربي وخارجه: من الأوائل، يمكن ذكْر مصطفى صفوان وميشال أصفر، ومن الجيل التالي جاك حسّون وعدنان حبّ الله، على سبيل المثال لا الحصر. لكنّ المؤلّفة تنحّي جانباً أسماءً كهذه، أو لا تعطيها حقّها من القراءة، باعتبارها "تحمل علامة موقعها الليبرالي، ومنبثقة عن مؤلّفين على هامش الشتات العربي في باريس"، كما تقول في اقتباسٍ لكلمات جوزيف مسعد. لكنّ ما يجمع هذه الأسماء، أكثر من كتابتها انطلاقاً من الـ"هامش" الباريسي (بالمناسبة، جلّ المؤلّفين العرب المعاصرين في التحليل النفسي درسوا في باريس أو كتبوا انطلاقاً منها، بمن فيهم يوسف مراد)، هو النظرة، المختلفة إلى حدّ بعيد عن نظرة الشاكري. اختلافٌ قد يبرّر وضعهم جانباً، باعتبار أن أطروحاتهم تناقض، إلى حدٍّ ما، خلاصات المؤلّفة. فهؤلاء كانوا مشغولين بالإجابة عن سؤال "ما العمل؟"، الذي دفعهم إلى أخْذ التحليل النفسي نحو مواقع النقد الذاتي، لاستخدامه في فهم وتحليل الراهن العربي، وتسمية معضلاته، ولا سيّما ثنائية السُّلطة والدين. أمّا الشاكري، فنقاشها لا ينتمي إلى لغة النقد الذاتي هذه، بل إلى دفاعٍ عن الذات في سياقٍ ما بعد كولونيالي، وأمام قرّاءٍ بالإنكليزية تريد إخبارهم أن الثقافة العربية شريكة في صنْع التحليل النفسي، والتاريخ. لكنّها، من أجْل ذلك، تعود مئات السنين إلى الوراء، مع أنّ ثمة مادّة معاصرة تمكّنها من قول ذلك، حتى في السياق المصري الذي هو موضوع دراستها...

تقيم مقارناتٍ هشّة بين الصوفية والنظرية الفرويدية

إنّ تفكير ابن عربي والغزالي، وغيرهما من المؤلّفين الكلاسيكيين، بمسألة النفس، قد لا يكفي للقول بوجود "تفاعلات" بين الفكر العربي القديم والتحليل النفسي. فالحديث هنا هو حديثٌ عن علاقة نبنيها من طرفٍ واحد، أو عن لا ـ علاقة: ذلك أننا أمام خطابين يتحدّثان عن الشيء نفسه لكنْ بلغتَيْن وفهمَيْن مختلفين تماماً. أمّا التفاعل، فيقتضي، بحسب فهمنا له، أن يكون طرفا المعادلة ناشطَيْن فيه، وعلى وعيٍ بنشاطهما هذا، ومتّفقَيْن، قبل ذلك، على عدد من النقاط الأساسية حول تعريفهما لموضوع التفاعُل وفهمهما له.

يتأتّى كلامنا من الخشية التالية: أننا بحديثنا عن مشاركتنا في صناعة بعض الخطابات المعرفية الحديثة، من دون تقديم أدلّة مقنعة على ذلك، نكون، في اللحظة نفسها، كمَن يؤكّد على العكس. خصوصاً عندما يكون عُمْر أدلّتنا قروناً من الزمن، كتلك التي تريد إيجاد معاصرةٍ ما بين ابن عربي وفرويد. منطقٌ كهذا شائعٌ في أيّامنا ويحظى بجمهور واسع لا يتردّد بالقول، مثلاً، إنّ ابن خلدون هو "مؤسّس" علم الاجتماع. إذا كان هذا الكلام صحيحاً، فإن أسئلةً عديدة تُطرح، ربّما أبرزُها: لِمَ لمْ تجد هذه البذور - عِلم نفسٍ عند ابن عربي، وعلم اجتماع عند ابن خلدون - تربةً خصبة في ثقافتنا، ولِمَ نمَتْ، بدلاً من ذلك، في تُربة أُخرى؟ وإذا لم يكن ثمّة قطيعة عربية ما، وإنْ نسبية، مع التحليل النفسي وما يقتضيه من حرّية وقدْرة، جمعية وفردية، على مُساءلة قضايا مثل السلطة والدين، فكيف نشرح أنه، كممارسة علاجية على الأقلّ، لم يستطع التجذّر في البلاد العربية رغم حاجة مجتمعاتها إليه؟ كلّ الخشية أن تكون هذه المحاولات إخفاءً أو ترميماً لجرحٍ نرجسيّ ثقافيّ، كذلك الذي تحدّث عنه جورج طرابيشي ذات مرّة...

المساهمون