إبراهيم جوابرة.. طفلٌ يمّد لسانه في وجه الخراب

11 يوليو 2021
من المعرض
+ الخط -

رسَم إبراهيم جوابرة دبّابةً وسط صفحة في دفتر مدرسي مسطّر، تاركاً عنوان خانات الدرس والمادة والتاريخ فارغةً، في محاولة لاستدراج زوّار معرضه "رسائل من الأرض"، الذي افتتح الثلاثاء الماضي في "غاليري زارا" العمّاني ويتواصل حتى منتصف الشهر الجاري، لمشاركته لعبة بسيطة ومعقّدة في تذكُّر الطفولة.

نمضي مع الفنان الفلسطيني (1985) في عملية بحث لا تقتصر على اللوحة، إنما تمتدّ إلى نصوص شكّلت معادلاً كتابياً لها، نجدها في كتيّب المعرض تحت عناوين "الطيّار الصغير" و"بلاستيك مثل قلوبهم"، و"الأرنب الحزين"، و"اللحاف السحري". وفيها يستعيد ذاكرته الأُولى في المخيَّم؛ حيث تقاسم البيت مع سبعة عشر شقيقاً وشقيقة، وسبع قطط، وعشرة أرانب، وأربع عشرة دجاجة، وبقرة، وعشرة خراف.

تعبيرات ضدّ ذلك الموت الذي تسّلل بغتة إلى حياة الفلسطينيين

مساحة مكتظّة من بشر وأحداث وضجيج وأحلامٍ تُجاور الموت الذي يصنعه المحتل، يختزلها جوابرة في مجموعة رموز وأشكال تنتمي إلى عوالم غرائبية تُمثّل حنيناً غامضاً إلى طفولته التي يفتقدها، لكنّه يريد إعادة ترتيب وقائعها على نحوه الخاص حتى يستعيد توازنه من خلال مواجهة ذلك الخراب الذي ما زالت آثاره إلى اليوم تعبث به.

تظهر دبّابةٌ بلونها الأخضر في خمسة أعمال بهيكلها السفلي الذي تكمله نصف عربة أطفال بألوان زاهية؛ صورة مبتكرة في تناقضها، لكنها تحمل رسائل بعثها الفنان إليه، ووصلته أخيراً، وأصبح قادراً على تقديمها للمتلقي، حيث الألم والغرابة بات يمكن احتمالهما والتحكّم بهما من خلال تخليقهما في معانٍ جديدة بواسطة الفن.

من المعرض
من المعرض

في الطفولة كانت الفوضى والازدحام وقلّة الحال تمثّل نظاماً فرضته ظروف الاحتلال ومقاومته من أجل البقاء، وهي اليوم مفردات يتلاعب بها جوابرة ويتمرّد عليها بعد تحويلها إلى لوحة يتقابل فيها الحذاء العسكري مع حذاء صغير ملوّن، والبندقية مع المسدَّس الذي يلهو به الأطفال، وستحلّق أسراب الحمام بألوان تحيل إلى العسكرة، الأخضر والبنيّ بدرجاته الغامقة، كلّها تعبيرات ضدّ ذلك الموت الذي تسّلل بغتة إلى حياة الفلسطينيين كأنه حكم نهائي على وجودهم.

ونحن في لوحة أُخرى أمام مجموعة من الأرانب تتقافز فوق عربة عسكرية دخلت ذات يوم إلى المخيَّم، حيث يتفلّت الفنان من ذلك الكابوس الذي اختبره مراراً، عبر إصراره على إبراز جمال تلك الكائنات البيضاء التي تنتمي إلى فضاءٍ لا رابط بينه وبين العربة وإن اجتمعا في مكانٍ واحدٍ، لكنّ التنافر الحاد بين وجوديهما يصوغ رسالة العمل.

يكتب جوابرة في نص "الأرنب الحزين" حكاية تفيض أحداثها سخرية ممزوجة بمرارة العيش: "كان لازم نعمل مدينة ملاهي عنّا في البيت، لحتى البقرة والأرنب والجاجة يحسّوا إنهـم مرفّهين ويقوموا بواجبهم على أفضل وجه، لدرجة كبرت شوي وصرت بحس إذا الوضع بضل هيك، أنا الي رح أصير أبيض" لكنّها جزء من تداعيات لتأمّل الماضي سعياً إلى إدراك الحاضر. مسافةٌ بين زمنين تجسر بينهما قصص ولوحات.

تتحوّل كلّ المشاهد إلى حمائم وعصافير لا تحطّ على الأرض

يستعير الفنّان وجوه "الإيموجي" في أكثر من عملٍ، كمقاربة جريئة لتصوير مفارقات صاغت تلك الطفولة، حيث اختار "وجه دموع الفرح" كاستعارة رمزية بمنتهى التكثيف لقول كلّ ما يريده في تعبير واحد نجده مفرداً أو مكرّراً تسعاً وتسعين مرّة: كيف اخترع الطفل من أشياء لا قيمة لها أدوات لتشكيل مخيّلته في خربشات ستقوده ذات يوم إلى ما وصل إليه.

أمّا الطيور التي دخلت إلى بعض اللوحات، فرسمها بالزيت أو الأكريليك أو باستخدام مادة الفايبر، لتختصر الزمن الذي مرّ سريعاً، فبعد ثلاثين عاماً، استطاع جوابرة أن يمسك بمعنى للفن، ومعنى للحياة، حينما تتحوّل كلّ المشاهد إلى حمائم وعصافير لا تحطّ على الأرض.

المساهمون