كتَب إدفارد مونش عام 1932: "إنّ فنّي اعترافٌ بالذات، ومن خلاله أسعى لتوضيح علاقتي بالعالم"؛ كتابة تتطابق مع رسوماته التي عبّرت عن حالات شعورية بأسلوب واضحٍ وحادّ ومباشر، تختزلها لوحته الأكثر شهرةً وانتشاراً في العالم؛ "الصرخة".
صرخة الفنّان النرويجي (1863 - 1944)، التي امتّدت لأكثر من خمسين عاماً، أتت بوصفها ردّة فعلّ صادقة على رحيل والدته في الخامسة من عمره بمرض السل، ثم موت شقيقته الكبرى التي رعته كأمّ قبل أن يبلغ الرابعة عشرة، ما أصابه بكآبة مزمنة ضاعفتها تداعيات الحرب العالمية الأولى التي كان أحد رافضيها، وكذلك انهياراته النفسية المتكرّرة وإدمانه الكحول.
وراء تلك التراجيديا الشخصية، كان تأثيره واضحاً على العديد من فنّاني القرن العشرين، ليس بسبب موضوعات أعماله فقط، بل لتجريبه الدائم في تقنيات الرسم والطباعة، وفي استخدام الألوان وصناعة الأصباغ وبأسلوبه في ضربات الفرشاة على اللوحة، كما يوضح ذلك معرضُ "إدفارد مونش في حوار" الذي افتُتح في "متحف ألبرتينا" بفيينا منتصف شباط/ فبراير الماضي، ويتواصل حتى التاسع من حزيران/ يونيو المقبل.
عبّرت رسوماته عن امتزاج الحزن والفقد بالرغبة والإثارة
من خلال ستّين عملاً تمثّل مراحل متعدّدة من تجربته، يضيء المعرض علاقته بالرسم التي بدأت منذ طفولته، حيث عانى من المرض طويلاً، ما أقعده في البيت لشتاءات طويلة، جلس خلالها والده يروي له قصصاً لإدغار ألان بو بما تحتويه من مناخات رعبٍ، وحكايات أشباح ستتسرّب إلى لوحة مونش ولن تغادرها أبداً.
احتلّت شخصية الوالد مساحات من كتابات ابنه الذي لطالما أشار إلى حنوّه وعاطفته اللتين رافقتهما اضطرابات نفسية شديدة سيصفها بقوله: "ورثت عنه بذور الجنون". كما يكتب أن ملائكة الخوف والحزن والموت رافقتْه منذ اليوم الذي وُلد فيه، وأن والدته تنظر إليه من السماء كلما فكّر في اقتراف أفعال سيّئة كما أخبره أبوه، وهو ما ولّد لديه نزعة مثالية وإحساساً متعاظماً بأن الموت يسكن معه دائماً.
اختار المنظّمون أن يضمّوا إلى المعرض أعمالاً لسبعة فنّانين تأثروا بمونش، وهم: الألماني جورج باسيليتز بشخصياته القلقة التي تثير الشفقة كما صوّرها في أعماله التي تنتمي إلى التعبيرية الجديدة، والأميركي آندي وارهول الذي كان مأخوذاً بمفهوم التجربة لدى مونش وانعكاس انفعالاتها الصادقة في مطبوعاته.
كذلك تُعرض لوحات السويسرية ميريام كان التي رسمت نساءها في أشكال مشوّهة تُظهر تعرّضهنّ للعنف في أجواء قاتمة، وأعمال الإسكتلندي بيتر دويغ التي تركّز على العزلة والوحدة التي يعيشها الإنسان في المباني الحضرية الحديثة من خلال اشتغاله على الصور الفوتوغرافية بواقعية ومباشرة تذكّران بمونش.
أمّا الجنوب أفريقية مارلين دوماس، فتحاكي الفنان النرويجي في طريقة رسم العيون التي تتّسم بالرقّة والعاطفة والعذاب، وتعابير الوجه التي توحي بالبراءة والإثارة الجنسية والرغبة بالحياة والإحساس بالموت، وتقدّم البريطانية تريسي إمين مقولتها بأن أكثر التجارب إيلاماً هي التي تخلق الفن وتعكسه ببورتريهات تصوّر تعابير الحزن والفقد والشوق الممتزجة على الوجوه.
إلى جانب أعمال الأميركي غاسبر جونز التي تتناول العلاقة بين الفعل الجنسي والموت والتدمير، إحدى الثيمات التي اشتغل عليها مونش، لكنْ في حالة جونز تظهر السكاكين والأشواك الحادّة كرموز إضافية مع أغطية الأسرّة والموتيفات الحسّية الأخرى.