- معرض "إنها لعبة أرقام" يدعو لاستكشاف الأرقام المخفية في أعمال هادي سي، التي تتراوح بين التشابك الغابي والأشكال البسيطة، مشيرًا إلى أن الأرقام تحمل معاني ورسائل تتجاوز مجرد الأعداد.
- أعمال سي تعكس تاريخ النحت وتذكر بأساطيره مثل برنكوزي وجاكوميتي، مستخدمة الأرقام كأبجدية لاستكشاف الشكل، الجماليات، والمعاني العميقة، مقدمة تجربة فنية غنية ومتعددة الأبعاد.
يُصرّ هادي سي، النحّات اللبناني- السنغالي، الذي عرض مؤخّراً عدداً وفيراً من المنحوتات في "غاليري صالح بركات" ببيروت، كما يصرّ مقدّموه، على أن أعماله لعِبٌ بالأرقام؛ أرقام عادية في أحيان، وفوق العادية في أعمال أُخرى؛ كأن يستخدم الرقم 10452، الذي هو مساحة لبنان، في استعادة لـ جبران خليل جبران وآخرين؛ أي أنّ الرقم حينذاك يتحوّل إلى نشيد وطني. واضحٌ أنّ رقماً كهذا لا يكتفي بالتعداد. إنّه رمزٌ قبل كلّ شيء، رقم مقدَّس أو مبارَك، عندئذ نصل إلى رمزية الأرقام، بل إلى أسطوريتها، إلى مجراها في الميثولوجيات والأديان والسياسة.
يقدّم هادي سي عمله على أنّه هذا اللعب بالأرقام. والحال أنّ إصراره هذا يدعونا إلى التفتيش عن الأرقام في ثنايا منحوتات هي أحياناً تشابك غابيّ (من غابة)، وهي أحياناً أشكالٌ بسيطة. هنا قد نجد الرقم، وقد نتعب حتى نجده، لكنّه، في الحالَين، ليس كلّ ما نطلبه في العمل، أو نبحث عنه ضمنه. حتى حين يبدو الرقم نافراً، ولا يختفي في التشابه، حتى ذلك لا يكفينا أن نجد الرقم، بل لا نقف عنده. إن العمل به وبدونه يملك هيئة وبناءً وقواماً، وبالتالي رسالة ورمزية، لا ينتهيان في الرقم أو يقتصران عليه.
إن أنت جلت بنظرك في أعمال معرض "إنّها لعبة أرقام"، لن تلحظ هذه الأرقام أحياناً كثيرة. إذا بحثت ستجدها في ثنايا بعض الأعمال، التي لن تدلّ فقط على رقم أو أرقام، بل لن نعثر عليها وحدها. إنّنا غالباً نصادف أشكالاً لا تحملنا على تمييز الرقم، بل قد تخفيه عنّا، أشكالاً تحمل، في بنائها وتقاطعاتها ودواخلها، إشارات أُخرى، ومعانيَ ثانية، ورسائل خاصّة. نحن هكذا أمام منحوتات، لا نصل بالهيّن إلى هذا التشكيل الرقمي فيها، بل لولا عنوان المعرض، ومصادفة النحّات وسماعه، لما كنّا توصّلنا إلى هذا التفسير.
ثمّة منحوتات كثيرة تغيّب تماماً هذه اللعبة الرقمية، بل يقتضي البحث عنها عملاً إرادياً وإصراراً مسبقاً. حتى حين نجد الأرقام نجدها في أشكالها، التي تتصّل بالرقم وغيره، والتي تتقاطع مع الرقم وأشياء أُخرى. ما دام النحت تجريدياً، فإنّنا هكذا أمام الشكل وأمام جمالياته.
قد نجد الرقم وقد نتعب حتى نجده، لكنّه ليس كلّ ما نطلبه
الشكل، في تمامه، شيء آخر، في الغالب غير الرقم. إنّه في تركيبه وهندسته وحركاته عمل متكامل، شكل نهائي يدعونا إلى التفكير في النحت وتاريخه وأساطينه. منحوتات هادي سي تدعونا إلى هذه المراجعة، تدعونا إلى أن ندرجها هكذا في تاريخ النحت، إلى أن نتذكّر ونحن نراها أعمال برنكوزي، أو جاكوميتي أو هنري مور. لا أريد بذلك أن أردّ أعمال هادي سي إلى أيّ من هؤلاء، لكن واقعة أنّ أعماله تدعونا إلى التفكير بهؤلاء الأساطين، واسترجاع أعمالهم، ومقابلتها بالعمل الذي خلقه هادي سي. هذا لا يحدث إلّا لأنّ أعمال النحّات تملك من القيمة ومن القوّة ما يدعونا إلى استرجاع هؤلاء وتذكُّر أعمالهم. هذا بحدّ ذاته شهادة مهمّة لفنّه، أي أنّ أعماله تندرج فوراً في مغامرة النحت، وفي مساره، وفي عيونه، والأساليب التي طبعته والأشكال الكبرى منه.
ما قصّة الأرقام إذاً، لن ننفي هذه الميزة، بل هذه البداية وتلك الأصول الرقمية في عمل هادي سي، لكن لا نقف عندها، ولا نعتبرها أساس العمل ورسالته. هناك أرقام مقدّسة وأرقام أسطورية، لا يعنينا كثيراً أن نسترجعها، ولا يهمّ استخراج معاني الأعمال منها. الأرقام موجودة كما هي الأبجدية، أبجدية الأرقام هذه كالحروف قائمة بما تؤلّفه وتشكّله. لنقُل إنّ هذه الأرقام أبجدية أعمال هادي سي، لكنّ ما يؤلّفه النحّات منها شي آخر.
قلت إنّ عمل هادي سي يردّنا إلى تاريخ النحت وإلى أساطينه، إنه يذكّرنا في أعماله بهؤلاء. نحت هادي سي هو هذه القدرة على الحبك والتشكيل في أعمال تبدو في التفافاتها، وفي تكاوينها وتداخلاتها وتشبيكها، ذات جمل شاعرية أو شعرية.
في العمل الواحد نجد ما يمكن أن يبدو نوعاً من التأنيث، من قصّة الخليقة، من قصيدة بالمعدن، من أساطير صغيرة، من إزاحة باتجاه الأرض والسماء. نجد في منحوتاته ذلك الشكل الذي يستدعي مزيجاً من الشعر، ومن الدين، ومن النشيد. عند ذلك نصح أن نفكّر بأسماء كبيرة، جياكوميتي مثلاً. فن هادي سي يضعنا هكذا، في معنى النحت وفي تاريخه.
* شاعر وروائي من لبنان