ليلةٌ ملائمةٌ للمجيء
إنْ كان لا بدَّ أنْ تجيء
فَهذهِ الليلة تبدو مُلائمة.
الذينَ سفحوا أرواحَهم على قيرِ البلاد
ليصطادوا قِرشًا يُنْبِتُ أنيابَه بقلوبهم في يومٍ أسود
عادوا إلى بيوتهم،
نائمينَ الآن، ولا يحلمونَ سِوى بقرشٍ يفتَرِسهم في الصَباح.
الذين سَلخوا جلُودَهم في مَسلخٍ الآلهة
ثمَّ علَّقوهم بالخطاطيفِ على الجُدران تَلتَهِمُهم الشمس،
يتجمَّعُ عليهم الذُّبابُ الآنَ، ويُسمَعُ صدى طنينهِ في أُنوفِهم.
الذين أغلقوا أبوابهم مقهورين،
قد تَسمعُ ضربات روؤسِهم في حَديد البابِ وخشب الغُرفة
قد تَسمعُ نَشيجهم في جَوفِ جُثَّةٍ أو قَرارةِ بحر
لا يدَ لهم، ويحلمون بيدك.
إنْ كانَ لا بدَّ أنْ تجيء، فكلُّ الجهات لنا
مِن القُدس، من بيتنا هناكَ حيثُ يَسهَرُ فيه الغُزاة ويَسكرون
من صنعاءَ، مسروقة ملامحها في وجوهٍ غريبة
من دمشق الكئيبةِ في الأغنية الكئيبة
من بغداد، نغزةُ صدري وهشيمُ عظامي.
إن لم تَصل قبلَ الفَجرِ
قبلَ اندلاع البُكاءِ في يَقظة الأطفال وجوعِهم
قبلَ حسرة الكَهلِ ورغبةِ المُراهِق في الانتحار
فلا تُفكِّر بالمجيء،
أَكملْ غفوتك،
ودَعْنا على مهلٍ
نموت.
■■■
جِراءٌ تقودُ القافلة
هذا زمنٌ لا يُنادَى فيه على فُرسانٍ تَطلعُ من بين رملٍ وحِجارةٍ
وبيدها موتُها
ولا يُصفَّرُ فيهِ على خَيلٍ تَمرُّ كما قدحة السيفِ بالسيف،
غَريبٌ كما لو أنَّنا نزلنا فيه من كوَّةٍ في سماءٍ غريبة
ومشوَّهٌ مثلَ حُلمٍ في رأسِ مجنونٍ يحشر غفوتهُ في جُحر.
لا فهرسٌ فيه للأسماء التي بَذرت الحِكمةَ في رياح الأمس
لا عناوين لبيوتِ الذين كانوا يَقبضونَ على البَحرِ
ويقودونَهُ إلى صحرائهم
لا طريقٌ للذين جرَّدوهم من نياشينهم وقالوا لهم:
أكملوا الطريق غُرباء.
هذا زمنٌ يُنادَى فيه على الجِراء كي تقودَ القافِلةْ
وعلى القَمْلِ كي يَسمحَ لنا بأنْ نؤمِنَ أو نَكْفُر
وعلى العُثَّة كي تتفحَّص طاعةَ أجسادِنا بمستعمَراتِها.
هذا زمنٌ لنا فيهِ أن نَتفرَّج ونَصمتْ
لنا فيهِ أنْ نموتَ مَنْفِيِّينَ في ظلِّ الهَوامِشِ،
ولنا فيهِ أن نَرضى
ونُكْمِلَ الطّريق خلفَ
ما يَصلُنا
من
نُباح.
■■■
هذا الذي
هذا الذي يبدو أنيقًا في صورة البَيت
ويصعدُ سُلَّمَهُ مُطرِبًا للعَشيقاتِ يزدَدنَ في ظنونكِ يا أُمُّ،
هذا الذي يَخرجُ في قميصٍ عمَّدته يداكِ بماء الطمأنينيةِ
ويرجع برائحةٍ معصورةٍ على ثيابهِ من شَتلة الرّاحةِ؛
مُمثّلٌ بارعٌ
وكاذبٌ يُخفي بلاياهُ عَن عيونكِ التي تقرَأه،
يعودُ إليكِ ناجيًا من وخزةِ قلبٍ وانقطاعِ نفس
مِن تَعرُّقِ القدرِ الخَفيِّ على جبينه
وتَصفُّحِ المَوتِ حَرارةَ رَعشته،
هذا الذي يعودُ إليكِ لم يخبركِ: إنّا ذاهبون إلى المَعركة.
لم يقل لكِ: إنّا شردنا من كمائنَ مفتوحةٍ أفواهُها لأعمارنا الطازَجة.
وأخفى عليكِ سُقوطَهُ المريرَ في وَحلةِ النَّهار
وتقوُّسَ عِظامهِ في عيونٍ شامتة.
لا بأس يا أُمُّ
ارسُمي لهُ غَدهُ في تسابيحكِ عِندَ المَساء
وعمِّدي دربَهُ بالماءِ يسعى خلفهُ في الصباح
ثم أغمِضي عينيكِ في سَجدتكِ
وردِّدي مصيرَه الذي تُريدينه
بينما هو هناك
يقودُ
جُثَّته
في
الميادين.
■■■
أُغنيةٌ في ظلِّ الرِّصافي
عاليًا فوقَ صياحِ المُرهَقين وأوجاعِهم
وفوق أقدارِهم المَسحوقة
عاليًا تقفُ مصلوبًا بشمسِ بغداد
ومن حولكَ الحَمّالونَ يَجُرّونَ أثقالَ غَيرِهم
وغيرُهم يَجُرّونَ أثقالَ آخرين.
واقفًا تَسمَعُ نداءات الباعَةِ وتَغَيُّرَ أصواتهم،
فكم نُحِتَتْ في وقفَتِكَ حناجر، وأُفنِيَتْ في وجودِكَ أُخرى
وكم ظَلَّلْتَ في شرودِكَ حَيارى لا مكان لهم.
عاليًا تُرطِّبُ وجهكَ أجنحةُ الحَمام
وتحشو في أذنكَ أغانيها التي لا يسمعها في زحام الشوارع أحد
وأنا في ظلِّكَ
أغنّي للرَّصاص الذي اختَرقَ جَسدكَ - البرونز - ذاتَ عامٍ
وأتحسَّسُ لهيبَ الشمس
يتسرَّب من ثقوبِكَ الصغيرة على وجهي.
* شاعر من العراق