زيارة أي معرض للفنان المكسيكي داميان أورتيغا Damián Ortega تثير الدهشة؛ إذ سرعان ما سيرى الزائر عشرات، بل مئات القطع والمواد والهياكل طائرةً في الهواء، معلّقة، بدءاً من كرسيّ، وانتهاءً بسيارة، وما بينهما من نجوم أقزام تموت إلى جانب الشمس الأم.
في معرضه "اتسعت الرؤيا"، الذي يستضيفه حتى شباط/ فبراير 2023 مركز Botín في مدينة سانتندير الإسبانية، يقترح الفنان (مكسيكو، 1967) تسع منحوتات من القطع المعلّقة، التي تطير في فضاء المعرض وكأنها مُهاجرة عن أمّها الأرض - حجر الأساس.
كلّ شيء معلّق، يطفو، يطير، بنظام وترتيب: أوّل سيارة "فولكس فاغن" أسطورية أخذها المصنع الألماني إلى المكسيك، حيث صارت رمزاً للحداثة والتطوّر، ووهماً للصعود على درج الطبقات الاجتماعية؛ وثلاثة كراسيّ خشبية مفكّكة يرمز من خلالها إلى مفهوم الإدراك المتنوّع كطريقة بديلة لتجربة الأشياء اليومية؛ وغوّاصة مصنوعة من أكياس مكرّرة من الملح والمعدن تحتوي على كيس بلاستيكي فيه ثقب أسود، أو ربما جرح نازف، ينسكب منه الملح كأنه ثلج يملأ الأرض؛ وقضبان فولاذية تطفو في الغرفة وتخلق من أشكالها الملتوية ظلالاً تتكلّم مع الأرض بأحرفٍ أبجدية.
وبركانٌ مصنوع من زجاج ملوّن وصخور نارية، يثور ويتمدّد في شكل ثلاثي الأبعاد؛ وصورة تشرح صلب الأرض، تبدو كأنها رحلة عبر الطبقات المختلفة من الموادّ والأشكال والألوان، متحدّياً بذلك فكرة النحت كقطعة، وهارباً من المكانة البطولية للقطعة الأثرية؛ وغبار كونيٌّ من موادّ طبيعية وصناعية دُمجت على ارتفاعات ومسافات مختلفة لتشكيل نظام بيئي؛ وعاصفة من المواد والأدوات المُعلّقة (مشرط، مطرقة، أدوات حدادة ونجارة وكهربائيات)، وكأنّ الحياة مصنع كبير تتحكّم فيه الآلات المتطوّرة تكنولوجياً وفنيّاً.
وأخيراً المُركّب الكيميائي لقطرة ماء عبر كُرات ترمز إلى جزيئات الهيدروجين أو الأكسجين، متقاطعة في ما بينها بخيوط أفقية وعمودية تُشير إلى علاقة الأرض بالسماء ومكان اللقاء بينهما.
أعمال تنقل إيقاع المنزل والحياة والمصنع والتكنولوجيا
هذه الاستراتيجية المعلّقة التي يتّبعها أورتيغا، والتي تُوحي بالانفجار أيضاً، ليست إلّا مُمارسة دقيقة لتصنيف وترتيب العناصر والأشكال في أماكن محدّدة بغية إبرازها وإنتاج إيقاعها المطلوب: إيقاع المصنع، والمنزل والحياة، ولكن أيضاً إيقاع العمل والتكنولوجيا. غير أن منح الأشياء طابع الطيران أو الدوران في هذا الفراغ الكوني ليس إلّا شعوراً عميقاً بالهشاشة والتلاشي. وكأنّ الحياة، بكل ما تحتويه، هشة، تطير وتتلاشى مع ذرّات الهواء.
لا شكّ أن الفضاء العام، كما يفهمه أورتيغا، مساحة سياسية يعمل فيها فنّ النحت بوصفه عملاً ذهنياً، ومكاناً للفعل المؤثّر بشكل عميق على حياتنا اليومية. قد يكون هذا الأسلوب الطائر، والفكاهي إلى حدّ ما، طريقة ورؤية نقدية لكلّ ما نعيشه من سكن، وعلاقات وأشياء ومساحات وكائنات تحيط بنا.
قد يفكّر الزائر للمرّة الأولى أن كل منحوتة هي مغامرة مستقلّة، ولكن سرعان ما سيدرك أن مغامرة السرد واللغة والحوار موجودة في جوّ المعرض العام، وهي التي تربط ما بين القطع. ليست المادّة هي التي تتحاور، بل دلالاتها، رموزها وإيقاعها. إنها لغة تدعم نظام إدراكنا وعلاقاتنا مع الواقع. إنه منطق اللغة الذي يُسمّي الوجود، ولكنه أيضاً منطق الانفتاح على احتمالات أُخرى.
يعيش داميان أورتيغا بين ألمانيا والمكسيك. بدأ حياته المهنية رسّامَ كاريكاتير في إحدى الصحف المحلّية، وهي مرحلة أخذ منها السخرية التي وظّفها فيما بعد أداةً لتوجيه انعكاساته الفنّية. عُرضت أعماله في متاحف مثل "جميرا" بمكسيكو، و"متحف الفن المعاصر" في لوس أنجليس، وكذلك في لندن وفيلادلفيا والبندقية وساو باولو وغيرها.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا