إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.
التعاطُف النبيل مع "طوفان الأقصى"، الذي عبّرت عنه الشعوب العربية، صيحةٌ من أعماق النفوس الحرّة، اسمُها فلسطين. في أصداء الصيحة تجاوُبٌ مع مشروع التحديث الثقافي الذي كان، منذ القرن التاسع عشر، متواصلاً مع مشروع الحرية والتحرُّر، حسب الأوضاع والمعطيات الخاصّة بكلّ منطقة عربية. ثم جاءت نكسة 1967 بثقافة نقدية، حالمة، تُعيد النظر في مسلَّمات ومُحدِّداتٍ، غايتُها ضخّ دماء جديدة في فكرة التحديث الثقافي، التي أصبح مركزها القضية الفلسطينية. كانت ثقافة مواجهة، لثلاثة عقود. ورغم ما عرف فيها المثقّفون النقديون من أشكال العذابات والمنافي، فإنّ ما أنتجوه خلق حالة عربية من الوعي النقدي.
كلُّ ذلك أخذ ينأى ويتفسّخ مع الغزو الأميركي للعراق وبروز العولمة. ولعلّ مراجعة وضعية الثقافة العربية تجعلنا نُلاحظ أنها نسيت السؤال كما نسيت النقد. أمّا إعادة بناء نموذج الارتباط الثقافي بالقضية الفلسطينية فلم تعُد تسمح بإدراك المحدِّدات المطلوبة في الثقافة. لهذا استقبلتُ هذا النداء للتفكير، في الذي يمكن أن تكون عليه صلة الثقافة العربية مع القضية الفلسطينية، بما هو استجابة لحلم يشدّنا إليه، حلمٌ أو مستحيل.
لا بدّ من كسر الطوق الذي يخنق به الصهاينة العالم
أُلخّص وجهة نظري في الملاحظات التالية: السؤال عن الذي يُمكن أن تفعل الثقافة العربية للقضية الفلسطينية هو: "ما العمل؟". سؤال له غوايته، لِما يختزن من دلالات في التاريخ السياسي الحديث. كلُّ مثقَّف نقدي، عاش فترة الستينيات والسبعينيات، تعلّم كيف يجعل من "ما العمل؟" مصدر اختيارات تحرُّرية ثقافية وسياسية في آن، ويمكننا اليوم أن نُجيب عنه في ضوء الراهن. فالمُتتبّع للفكر الصهيوني يُدرك العناية القصوى التي توليها الصهيونية لنشر هذا الفكر، من خلال ممارسات ومؤسّسات ثقافية وإعلامية لامحدودة.
ضخامة عدد الإنتاجات والمؤسّسات وقوّة التأثير تؤدّي بنا إلى العجز والإحباط. لذا، فإنّ اختيار الثقافة العربية هو أن تعتمد ممارسات تتحدّى العجز والإحباط حتى يتغذّى التضامن مع القضية الفلسطينية ومع حركة المقاومة. أسمّيها ممارسات بمعنى كتابات وأعمال فنّية، بأصوات متعدّدة ومختلفة. يلتقي فيها الفكر بالأدب والفنون. ممارسات تتكامل مع ترجمة ما لم يُترجَم بعدُ من أصول الثقافة الصهيونية وكذا الكتابات والأعمال النقدية لإسرائيليّين وسواهم، حتى يتمّ بناء ثقافة المواجهة بطريقة منظَّمة ومستمرّة. بهذا البُعد يمكن للثقافة أن تُبادر بفعل مقاوم، مجدّد ومؤثّر في مسار القضية الفلسطينية.
أمّا كيف تصبح الثقافة أداة تحرير وتحرّر للأرض والإنسان، فلا بدّ أن نستوعب الزمن الذي نحن اليوم فيه. لنكنْ واقعيّين. قد لا نختلف عندما نقول إنّنا بعيدون عن الحيوية الثقافية التي أفرزتها نكسة 1967، من حيث المعطيات والوقائع العربية والدولية. نحن في زمن العولمة، الذي يُمجّد ثقافة الإعلام والاستهلاك وقيم السوق، وفي زمن التطبيع بقتامته. بعيدون، بمعنى أنّنا لا يمكن أن نعود إلى الحيوية الثقافية للسبعينيات والثمانينيات. وما يمكن أن يربط الثقافة بفكرة التحرير والتحرّر هو اعتبار الذخيرة الثقافية التي اكتسبتها الثقافة العربية من نهاية الستّينيات حتى بداية القرن الحادي والعشرين، ثم تحيين ثقافة السؤال، التي هي ثقافة النقد. نسيان السؤال هو في حدّ ذاته نسيان لما أنتجه الكتّاب والمفكّرون والفنّانون، بجرأة المواجهة لقيم ومؤسّسات الاستعباد والإخضاع العربية. من ثمّ على الثقافة العربية أن تلازم المستحيل في العمل وفي الإنجاز.
وبخصوص الكيفية التي يُمكن أن تُقاوِم بها الثقافة العربية هيمنة المشروع الصهيوني، أرى من المستعجل الانتباه إلى ضرورة نقد الفكرة الصهيونية التي أصبحت تنتشر بكلّ ترحيب في العديد من البلاد العربية، وفي مقدمتها البلدان التي أقدمت على التطبيع مع "إسرائيل". هناك اليوم مثقّفون، كتّاب وفنّانون وصحافيون أصبحوا يتباهوْن بيننا، وهم يستعملون اسمنا، بالدفاع عن "إسرائيل" وثقافتها. ما لم يكن التفكير فيه ممكناً في العالم العربي أصبح رائجاً بدون أقنعة من خلال كتابات وإصدارات ومواقع ومنصّات للتواصل الاجتماعي. الفكرة الصهيونية، التي يدافع عنها هؤلاء، موجَّهة لتجريم حركة المقاوَمة الفلسطينية، وكذا الإلحاح على أهلية ربط الصلات مع "إسرائيل" والدعوة لتثمين مكانة ثقافتها وقوّة تأثيرها في القرار السياسي والثقافي، على المستوى الدولي. بل وصل الأمر، في المغرب مثلاً، إلى اعتبار الأدب الإسرائيلي مكوّناً من مكوّنات الثقافة المغربية! وقائع مُحبِطة، ولها مع ذلك أن تدلّنا على كيف يمكن للثقافة أن تقاوم الهيمنة الصهيونية، إسرائيلياً ودولياً.
* شاعر من المغرب
هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".
لقراءة الجزء الأوّل من الملفّ: اضغط هنا