الأشرطة المُصوَّرة.. نضال بالرسوم والظلال

26 يناير 2024
من أغلفة كُتب الفنّان المالطي الأميركي جو ساكو
+ الخط -

رغم الحَظْر المفروض على النِّتاج الفنّي الفلسطيني ومُحاولات التعتيم عليه، فإنّ أصوات المُبدِعين لم تخفُت ولم تَنِ عن التعريف بالقضيَّة، لتذكير العالَم المأخوذ في فِخاخ السرديَّة الغربية بوجود أرض وشعبٍ محتَلَّيْن، تحيا فيهما ثقافةٌ عريقة يسعى الاحتلال إلى مَحْوها من الذَّاكرة. ومن بين التعابير الفنّية، تطوَّرت في الآونة الأخيرة الأشرطة المُصوَّرة مُستغِلَّةً التقنيات التصويريّة السمعيّة - البصريّة، وما تُتيحه أدواتُ الرَّسم الرَّقميّة، وباتت تُخاطب جمهوراً ألِف هذا الشَّكل الفنّي فأقبل عليه أكثر من إقباله على التعابير الرسميّة: المُحاولة التأمّليّة والتحليل الجيو-السياسي، والأدب النضالي بمعناه التقليدي.

فهل تنجح هذه الوسائط المُستحدَثة في إيقاظ الرأي العامّ وتوعية فئةٍ الشباب واليافعين؟ وهُم الذين لم تَعُد تُقنعهم الخطابات الخشبيّة "المتعالِمة"، فأقبلوا حدّ الإدمان على هذه التعابير المُصوَّرة لخفّتها على النَّفْس وسرعة مُطالعتها. 

تكاثرت هذه الأشرطة منذ سنة 2015، حتى صارت تُشكّل ظاهرةً تستحقُّ الدَّرْس، إذ أنتج مُبدعون فلسطينيّون العديد منها ولا سيّما بالألسُن الأجنبيّة، مع التركيز على الهمّ الفلسطيني الآني، والعودة إلى الأحداث المأساوية التي شهدها بلدُهم منذ "وعد بلفور" (1917). ولا شكّ في أنّ لجوء هؤلاء الفنّانين إلى صياغة الأشرطة بالإنكليزية أو الفرنسية، لا يُمكن إلّا أن يخدم القضيّة ويُتيح لها جمهوراً أرحب، كما يُضفي عليها بُعداً عالميّاً ولا سيّما في فترات نُضوب الاهتمام بهذه القضيّة في المَشاهد الثقافية غير العربيّة، التي يقتصر فيها جمهورها الغربي على السرديّة الإسرائيليّة المُضلِّلة.

وسيلة نضال سِلمية تغيّبها آلة الدعاية الغربية

وقد تخصّص الباحث الفلسطيني المُقيم في باريس عمّار قنديل في التحليل الدلائلي (السيميولوجي) والسوسيولوجي لهذه القضايا، في إطار دراساته الأدبيّة في المجال الفلسطيني المعاصر، حيث أنجز أبحاثاً عديدة ركَّزها على ثيمة "النّكبة"، كما وردت في الأشرطة المُصوَّرة سعياً منهُ لإعادة قراءة هذا الحدَث الفارق في ذاكرة الشعب الفلسطينيّ، ولاستكشاف الأساليب الفنّية التي يستعيد عَبْرها الفنّانون تاريخهم وأحداثه القاسية، كما ارتسمت في ضمائرهم وكما يودُّون إبلاغَها للعالَم. ولذلك اشتغل قنديل على هذا الموضوع من خلال سلسلة محاضراتٍ عِلميّة ألقاها في الجامعات الفرنسيّة، فضلاً عن مجموعة من المقالات صدر بعضها، وبعضُها الآخر قَيْد الإنجاز إلى جانب نَشْر "بودكاست" عنوانه: "الشريط المُصوَّر: بناءُ معرفة تاريخيّة".

وتتضمَّن هذه الأشرطة عدداً لا يُستهان به من الرُّموز والصُّور المُحيلة على التراث الفلسطيني، ممّا يخلق في "إمبراطوريّة العلامات"، بتعبير رولان بارت، ما يُشبه العلامة الحاضرة التي تملأ الوعي والمكان، علامات، مثل جدار الفصل العُنصري، والكوفيّة، والمقلاع، وصفوف المُهجَّرين الذين أُخرجوا ولا يزالون من ديارهم. وتكمُن قيمة هذه الدلائل، بظلالها وفويرقاتها اللونيّة، في ترسيخ صُورة فلسطين لدى القارئ.

ومن آخر إسهامات قنديل في هذا الصدد مُشاركته في مؤتمر عالمي، انعقد في "جامعة لوران"، شرق فرنسا، حول "الابتكار الفنّي العربي وإعادة اكتشاف مفهوم الالتزام"، حيث ركّز مُداخلته على الشريط المُصوَّر الفلسطيني، بوصفه شكلاً من أشكال الالتزام يهدف إلى توعية الجمهور عبر التقنيات البصريّة والتصويريّة. وقد اعتمد قنديل على مدوَّنة واسعة تتضمّن أشرطة عديدة أنتجها مُبدعون فلسطينيون سواء بالإنكليزية أو بالعربيّة، نذكر من بينها "بدّاوي" لليلى عبد الرزاق، و"⁠القوة الناشئة من الأحلام" و"أبيض وأسود" لمحمد سباعنة، فضلاً عن أعمال كرم الخليل، ودنيا عمري، وعامر الشوملي، وخالد لدادوة، وهِبة حمدان، وغيرهم، ممّا يعني وجود جيل كامل من الفنّانين الفلسطينيّين الذين يعملون في هذا الحقل، بعدما أدركوا أهميّته في التعريف التصويري بالقضيّة الفلسطينية.

تصرُّف في الظِّلال من أجل الإضاءة على نضال شعب

كما استدعى أعمال مجموعة ثانية من الفنّانين العرب المُقيمين في الغرب ومن الغربيّين، وكلّهم اجتهدوا في تقديم القضيّة الفلسطينية من خلال الرُّسوم، ومن بينهم: دينا محمد، وكرمل خليل، ثم جو ساكو صاحب "فلسطين"، و"غزّة 1956"، وفيليب سكارزوني، مُنتج "التعذيب الأبيض"، وسيلين دي جيمس وفرانسوا بجيني كاتبَي: "موح: فلسطيني تقريباً"، وكلّها توظّف آليات التصوير وشطحات القلم والتصرُّف في الظلال من أجل الإضاءة على معاناة هذا الشعب التي لم تتوقّف. 

وتجدُر الإشارة إلى أنّ هذه الأعمال صِيغت قبل أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أي إنها فنّية بحتة، لا أثر للعنف فيها، وأصحابها يعيشون في الغرب وفي فلسطين ويؤيّدون مسارات السلام عن قناعة، فلا مجال لأن تُلصَق بهم تُهَم العنف. فَهُم دُعاة حوار يحملون مضموناً مُلتزماً، وليس مجرّد فنٍّ للتسلية ولا للتحريض والسخرية البذيئة، كما يسود في التصوُّر العامّ.

ولذلك ركّز هذا الباحث على بواكير الأشرطة المُصوَّرة الفلسطينية، المُوجَّهة إلى جمهور غربيّ أي: عالمي، من أجل تحسيسه بالقضيّة الفلسطينيّة. ولن نفهم هذه القيمة ولا جُرأة هذه التحليلات إلّا إذا وضعناها في سياق المشهد الثقافي الغربيّ الذي تهيمن عليه السردية الأُخرى، وتُقمَع فيه عمداً وقصداً كلُّ الأصوات المُناوئة حتى لا تُشوِّش على رؤية الغربيّين ولا تُزعج عطالتهم. فكلّ ثغرة تُفتَح لدى جمهور هذه الأشرطة، وجلّهم من الشباب، هي نصٌّ جريء وإسهامٌ لا يجب الاستهانة به، حتى يتفتَّت جدارُ الصمت والتعتيم، عبر هذه الفقاعات الساخرة التي ارتبطَت بالفكاهة المُوجَّهة للأطفال، فإذا بها خطابُ جدٍّ مُوجَّه إلى الوعي السادر. 

عمار قنديل - القسم الثقافي
عمّار قنديل

كما تُضيف هذه الأعمال إلى المشهد الثقافي المُحتلّ صوتاً آخر وصورةً ثانية، هُما صوت الحقيقة وصورتُها اللذان لطالما خُنقا اعتسافاً. فأن يُؤدَّى هذا الصّدى، ولو عَبْر آليّات التصوير والحوار الكرتوني، أفضلُ من لا شيء، وفقاً للمثل التراثي: "ما لا يُدرك كلّه لا يترك جُلّه"، ولا سيّما أنّ في هذه الأشرطة بُعداً توثيقيّاً تاريخيّاً يُذكّر بأطوارٍ من تاريخ فلسطين، وما شهدته من نكبات وفظائع منذ قيام كيان الاحتلال، فهي تبني معرفة تاريخيّة مخالفة لما يسود في المحكيّة الإسرائيلية المُضلّلة. 

ولا شكّ في أنّ إيصال الصوت الفلسطيني مطلوبٌ بكلّ الوسائل والوسائط التي لا بدّ من استنفادها، إذ لا ندري أين تقع الكلمة في خِضَمِّ طُوفان المعلومات والصُّور والمطبوعات الرقميّة والورقيّة الذي يُغرِق القارئ. كما يحسن التعريف بهؤلاء الفنّانين الذين أثبتَت أعمالُهم أنّ الأشرطة المُصوَّرة أكثر من متتاليات صُور وفُقاعات حوارات. فقُوّتها في النصّ الذي يملأها وأصالتُها في طُرق تقطيعها وتوزيعها على مساحات الورق والشاشات، حتى تكون تواصُلاً فنيّاً يحمل رسالة تذكّر بالرؤية الفلسطينية للواقع. 

ولطالما عِيب على الفلسطينيّين، وفقاً للدّعاية الصهيونية، عدمُ اللجوء إلى الوسائل السِّلميّة، وهذه الأشرطة أحدُها بل أظهرُها، فلماذا لا يُؤبَه لها ولا تنال ما تستحقّه من الاهتمام في وسائل الإعلام الغربيّة؟ أليس الصمتُ عليها دليلاً آخر على "نِفاق" الغربيّين الذين لا يكفّون عن المُطالبة بمثل هذه الأفعال السِّلميّة. لكنّها حين تُنجَز وبأعلى المعايير الكونيّة تُهملها آلتُهم الإعلاميّة إجحافاً. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مُقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون