منذ عقود، والحديث عن أزمة المسرح العربي على كلّ لسان. يبدو الأمر وقد أخذ مستوى أكبر من التعقيد منذ منعطف 2011، حين زعزعت الجماهير الغاضبة أنظمة بلدانها، وهزّت أيضاً طمأنينة نخبها إلى أدواتها - النظرية والإبداعية - حتى بدت منتجاتها متلعثمة أمام الأحداث المتسارعة. قلما جرت مواجهة هذه الإشكالية بشكل مباشر، حيث إن أزمة المسرح باتت مدخلاً لخطاب رثائي أو لنزعة شعاراتية تكرّر المعروف عن أهمية المسرح في بناء مجتمعات جديدة.
عبر طرح يذهب رأساً إلى الإشكاليات، يقرأ الناقد التونسي حاتم التليلي محمودي حال المسرح اليوم، وما حدث له من خلخلة مفهومية، في كتابه "الانقلاب الفرجوي.. مذابح ديونيزوس" (ديار للنشر والتوزيع، تونس 2020)، حين "مكّنت مرحلة الثورات العربية وما بعدها من مولد أنشطة اجتماعية محفوفة بغير قليل من الفنون الأدائية وأشكال فرجوية متنوعة وجدت اشتغالها في الاعتصامات والتظاهرات الاحتجاجية كما في الوسائط الافتراضية"، وفق تعبيره، ثم حدث أن "خرجت تلك الفُرجات من يد الثوريين والفنانين إلى يد الإرهابيين"، ما يعني انقلاباً داخل الانقلاب، لنقف أمام وضعية إشكالية تفرض على المسرح - وقد سُحبت الكثير من أدواته خارج الخشبة - لحظة توقّف مطوّلة لإعادة النظر في مقولاته ومفاهيمه وأهداف خطابه.
يقارن بين تقويض المسرح من المتطرفين ومن المسرحيين أنفسهم
اعتمد المؤلف على ديونيزوس كاستعارة عابرة للنقاط التي عالجها طوال عمله، فإذا كان عنف المتطرّفين أكثر ما هزّ العالم في السنوات الأخيرة، فهو يراه عمليةَ إعادة تشغيل للمذبحة الديونيزيوسية التي تعدّ طقوُسها الرحمَ التي تشكّل ضمنها المسرح في اليونان القديمة، ولا ينسى هنا أن يشير إلى أن القربان الحيواني قد تحوّل إلى قربان آدميّ. ثم نقرأ عناوين فصول مثل: "ديونيزوس مقنّعاً"، و"ديونيزوس غريباً"، و"ديونيزوس مقاتلاً"، و"ديونيزوس حالماً"، فننتقل مع الشخصية الميثولوجية بين وجوه كثيرة من قضايا المسرح والفن وعدد من وجوه العالم الذي نعيش فيه.
إلى جانب هذا البناء الاستعاري، أقام محمودي عمله على فحص جذريّ للمفاهيم الدارجة في فهم الظواهر التي اشتغل عليها؛ فنظر في المعجم المفهومي المسرحي ووقف على قلق مفرداته اليوم، وتفرّع به البحث إلى رصد تمثّلات الظاهرة الإرهابية في الميديا والمجتمع ومن ثمّ فهم تقاطعاتها مع الفن، وقبل ذلك كان يقرأ في سياق عربي عام بدأ في 2011 ولا يزال حدثاً مستمراً نعيشه إلى اليوم.
الفرجة كمفهوم هي الخيط الناظم للكتاب، فوحدها تمسك بالمسرح وبالثورات والعنف الإرهابي في قبضة نظرية واحدة، وما ديونيزوس إلا صورتها التي تعيّنها في الأذهان. من زاوية، تبدو الفرجة مريضة حين لا يجد المسرحيون ما يلامسون به جمهورهم إلا باستدعاء عناصر العنف والقبح من واقعهم، ونراها عفوية - بل ساذجة - حين يكون من السهل الاستيلاء عليها وتحويل وجهتها، ونجدها ماكرة حين يصف محمودي الإرهابيين بكونهم "أشخاصاً لا يمتّون بصلة إلى المسرح فلا دراية لهم بالتمثيل ولا بفنون الأداء لكنهم صنّاع فرجة في حياة ممسرحة سلفاً" ويشير أيضاً إلى أن الفرجات التي يقدّمونها "امتلكت مقوّمات النجاح الإنتاجي دون أن تتخلّى عن طابعها الرجعي".
لا يفوت محمودي عقد مقارنات بين التقويضات التي يعرفها المسرح من المسرحيين أنفسهم (بريشت، أرتو...) والتقويض الذي يعيش على واقعه اليوم بشكل عفوي من الحركات الاحتجاجية، وبشكل مقصود وقطعي وعنيف من قبل المتطرّفين، وهم يقلبون مقولة نيتشه "لنا الفن كي لا تميتنا الحقيقة" إلى ضدّه السلبي "لنا الحقيقة كي نميت الفن"، بحسب عبارة المؤلف.
ضمن تفاعلات ثالوث صناعة الفرجة هذا؛ مسرح - احتجاجات اجتماعية - إرهاب، نفهم مع محمودي أن إحداثيات العلاقة بالشكل الذي نراه اليوم تؤدّي الى تصحير الواقع، ربما بدأ الأمر بتضييع فُرص الثورات العربية في بناء الإنسان والمجتمعات ويمتد إلى ما هو أبعد وأعمق.
العمل بذلك تنبيه بأن الفرجة قد أفلتت تماماً من يد محترفيها، صُنّاعها المعترف بهم، ولا بدّ لدارسيها أيضاً أن يطوّروا أجهزتهم المفاهيمية ليكون لهم حظ لإبصارها وهي تتحرّك في المرئيّ وغير المرئي. كل شيء فرجة مؤهلة للدراسة والتحليل، بحسب حاتم التليلي محمودي، بذلك فقط نستطيع تأهيل نظرتنا إلى العالم، وذلك نداؤه إلى المسرحيين، وهو يكشف لهم أن أدواتهم قد باتت متاحة ومباحة، وعليهم أن يخترعوا "الفرجة" من جديد، وإلا فكل ما يقدّمونه مقولات ساذجة أو كيتش.