في العائلة، نَنحَدِر جميعًا من امرأة واحِدة: عبّوش.
تلتقي كلُّ فروع شجرة عائلتي عندها، ويَسوقني إلى مَعينها عِرقان.
عبّوش! هي أمّ جدّتَيَّ الاثنتَين. إنها جدّة والِدَيَّ الاِثنين.
تبقى ذكراها فيَّ شذوراً وضَبابًا ككلّ شيء يتعلّق بطفولتي. لا أعلم ما الحيلة التي لجأَت إليها ذاكرتي لأنسى بأني عندما كنت طفلة قد عرفتها؛ أريد أن أقول رأيتها وعِشنا بالفعل سويًّا. وإذ بالصور تطفو على السطح بفعل أمر يشبه ارتطام الأمواج العاتية بصخور البحر، تُستَخرَخ من القاع، بلا سبب وجيه.
عبّوش وهيئتها الأجنبية، وكلّ تلك الأدوات والمعدّات المنحدرة من ثقافة البربر، "الشلح"، كلّها قادمة من الجبال النائية في الأطلس الكبير، التي أجهل عنها كلّ شيء.
بقي من آثار عبّوش تلك الصورة المعلّقة في مدخل بيتنا في حي "بلاطو" في سلا. وباعتبارها وصيًّا على العائلة، كنّا نَجِدُ الصورة نفسها في كلّ منازل أبنائها. كان ذلك طريقةً يعبّر فيها نسلها عن انتمائهم لهذه المرأة، كما يفعل الناس عندما يعلّقون صورة صاحب مكانة اجتماعيّة أو حاكمٍ كبير.
كنّا نراها فيه، بذلك المظهر الذي كان يقطرُ نُبلاً، أمام البيانو في غرفة الضيوف. كان يمكننا قراءة "Steinway & Sons" فوق كتفها. هي صورة غريبة وغير متناسقة، ومع ذلك، كان عقلي الصغير الفارغ يتغذّى عليها. ومن نَهمي لابتلاع كلّ التفاصيل لأصنع مشاهدَ وقصصًا، كنت أستيقظ أحيانًا في الليل لأدرسها.
كنت أفسّر صمتها المطبق بِبَتْر داخل فمها؛ لسانها بلا شك
كان شعر عبّوش أسود مُستَرسِلًا، تزيّنه تسريحة الكعكَتين، على طريقة الأميرة ليا القادِمة من الإمبراطورية. وبشالها الشفّاف الصغير الموشّح بالزهري الفاقع، كنتُ أتخيّلها روسِيَّة؛ كـ"ماتريوشكا" تنزلق على الثلوج في غابة شمالية، غابة التايغا، على متن زلَّاجة تجرُّها الكثير من الكلاب الذئبية. ثم تغيّر وجهتها في يوم آخر ببشرتها الداكنة وعينيها الكهرمانيتين ووشومها - التي كانت ترسم معينا على ذقنها وعِرقاً على جبهتها - فتصبح ملكة الهنود الحمر. وتنّورة مطرّزة بخيوط ذهبية على قميص "تونيك" أبيض جعلني أربطها بشعب الغجر. أمّا مع خنفساء اللؤلؤ الأسود في تجويف العنق، والعملتين الذهبيّتين في الأذنين، وعينين تبدوان قليلاً كالعيون الآسيوية، فقرّرت أن تكون شركسية...
كنت أحبّ عبّوش وزياراتها عندما كانت تعود من "بلادها" البعيدة. كانت تظهر أمام شجرة الزعرور البستاني [الأسكدنيا] في حديقتنا، يرافقها، بشكل غريبٍ، الحمّال الذي يجرّ عربة صغيرة، وهي مرتدية ملابس "بابا نويل"، وفي بعض المرّات كانت تتنكّر لتبدو كالحمار الوحشي. لقد كانت مهمّة الرجل أن ينقل لنا المحصول العائلي: الشعير، وثمار اللوز، وتَنَكة زيت الزيتون. لقد كان يتلفّظ بصوت منخفض بكلمات لم أكن أفهمها، بينما كانت عبّوش ترد عليه بإيماء بالرأس، كان يضفي على تعابيرها مزيدًا من الملوكية. كنت أفسّر صمتها المطبق بِبَتْر داخل فمها؛ لسانها بلا شك.
ولئن كان مظهر جدّتي الغريب يثير إعجابي، فإنّ شعورًا بالخزي كان يشوبه أيضًا. إنّه الخزي الذي يثيره في الطفل ذلك الخيال عندما يرفض أحد الأقارب الانصياع لنمط الحياة السائد.
في ذلك الوقت، كانت طبقة النبلاء المتكبرة في العواصم الكبرى للدولة تصنِّف العائلات حصرًا حسب اسم الأسرة والمنطقة الجغرافية التي تنتمي إليها. لقد كانت عبّوش من ثقافة أجنبية بالنسبة لأهل سَلا. كانت من الشلوح. وكانوا يتحدّثون عن الشلوح، كما نتحدّث عن مهرّج أو عن جحا. لقد كانت أصول الأشخاص وقود كلّ الدعابات. "ذات مرّة قال رجل بخيل من الشلوح"، فلا نستطيع كتم ضحكنا، وما إن نسمع: "يُقال إنّ أحد الشلوح قال عند وصوله إلى المدينة.."، ننفجر ضحكًا.
لكن عبّوش كانت قد أحكمت "خطّةً" لتواجه الازدراء؛ إذ كانت تُرشِّح ذرّيتها ترشيحًا عبر الزواج من أكبر العائلات، كما كانت تعلّمهم أحسن تعليم مهما كانت التكلفة. فكانت هي من يتولي شخصيا مشاريع التوجيه المهني. ولم يكن يسترعي انتباهها سوى مهن أربع: التعليم، والصحة، والعدالة، والسكك الحديدية.
لقد سادَت بنظام أمومي قوي تظِلُّه بخفّة ثقافتها التي لم تفصح عن نفسها إلا نزرًا يسيرًا وبصمت. نعم! لقد كانت من ثقافة لم أكن أفهم قواعدها. وظلّ لسانها المبتور مستحوذًا على انتباهي.
■ ■ ■
توقفت السيارة التي تقلّني إلى المطار أمام الإشارة الضوئية. تعرّفت عبر زجاج النافذة على مدرستي أيام الطفولة. وفجأة برز كل شيء: حفيف بيت نبات الكركدية الذي يشكّل قاطعًا ورائِحَة المازوت... تكتسي السماء بِحُلَّة العاصفة والانطباع بأن ثمّة من يستعدّ ليطفئ الأنوار.
يَعبُر رجل يرتدي رداء عمل أبيض. يحمل على كتفه هذه "النوغا" التي تلتف حول عمود ونسمّيها "جبان كلوبان". تبدو الحلوى من بعيد شبيهة بقبّة خزف بيضاء مزيّنة بزينة لولبية وردية اللون. أُحِسّ في يدي بلزوجة قطعة يَقطر منها السكر. تستمرّ النار ويسنِدُ بائع "النوغا" ظهره الآن إلى جدار المدرسة. يبدأ المطر بالهطول ويحتمي الرجل تحت اللافتة التي تُشَكِّل قاعدتها مظلّة صغيرة. كُتِبت على هذه اللافتة بثلاث أبجديات بالعربية، والفرنسية، والتيفناغ، وهي أبجدية الأمازيغ. هي لغة عبّوش.
شعور متردّد. سعادة لإعادة اعتبار تمتزج بالإحباط. أنظر إلى أبجدية التيفناغ بِعين مَن يكتشف لغة أجنبية. لا تحمل العلامات أيّ معنى؛ فأنا لست قادرة على قراءة لافتة مدرستي.
"هكذا أجمل!" يقول لي السائق الذي يؤكّد لي بأني لست الشخص الوحيد الذي لا يستطيع قراءة أي شيء.
ألوذ بصمت تأمُّلي، وأعتزل جميع اللغات. صمت مطبق ناتج عن بَتر عابر للأجيال. أنا لا أتكلّم لغة عبّوش. وعبّوش، لم تتكلّم أبدًا لغاتي.
استدعتني جدّتي الكبرى. عند وصولي إلى الفندق، أحثّ الخطى لأعهَد حقيبتي إلى الاستقبال وأغادر للقائها. هناك، في مقبرة سلا حيث ترقد على واجهة البحر.
■ ■ ■
عمري تسع سنوات وهوسي بعبّوش سيقودني نحوها.
هذه الجدّة التي تحيك قرب مدفأة، المرسومة على غلاف كتاب الفرنسية، كسوتها بالوشوم، وألبستها نعلين في قدميها. فاستمتعت بخلط الكلمات واللغات، في واجب كتابي، في مزيج فارغ المعنى. ومضيت بثقتي العمياء لأقصى حدودها عندما ردّدت على المدّرس:
"تَنِكتِب بِالعَرَنسِيَّة".
لقد فُصلتُ من المدرسة. ولم يكن هناك من يعتني بي في البيت؛ لذا سلّموني إلى عبّوش التي خالفت بذلك عادتها القاضية بعدم الإثقال على نفسها بالأطفال. ولربما حَزَرت أنها أساس عذابي.
أصل وبيدي حقيبتي إلى نزل "ساحة باب حسين"، حيث تنزل عبّوش عندما لا تسافر. نصل إليه عبر درج صغير، كما لو كنّا نصعد إلى كوخ مرتفع بين الأشجار. كل شيء مختلف هنا. أشعر أني في إجازة في بلد أجنبي، لا توجد أشياء تدل على الحداثة، ولا تلفزيون. يوجد فقط مسجّل أشرطة كاسيت وراديو في نفس الوقت للترفيه. عبّوش تقدّر حدّ التقديس "الرايس البنسير" الذي تحتفظ بعدة كاسيتات له. على إحداها توجد صورة سيارة مقلوبة وهذا الاسم: "لِقصيدَة". وبالتالي، أخذت أبحث، للاستمتاع، عن هذه الكلمة في سيل غامض من كلمات الأغاني.
تتغيّب عبّوش في الصباح الباكر لتقضي شؤونَها في سوق الحبوب. لأشغل نفسي أقوم، ممسكة بطَبشورة بيدي، بـرسم محيط نخلة ضخمة تُلقي بظلها من فناء مجاور على الساحة. فأجلس بعد ذلك على الدرج وألاحظ تنقّل الطيف الأسود.
تصطحبني عبّوش بعد منتصف النهار إلى المستشفى حيث تعمل امرأة كبيرة السن من عائلتنا. لقد سارت خطط عبّوش المهنية لأحفادها على خير ما يرام؛ وأصبح لديها اليوم مداخل في كلّ مكان، في المستشفيات، ومراكز الأمن، والمدارس، وسكك الحديد.
أحد الأطبّاء في المستشفى جعلني أرسم، وأحلّ بعض المشاكل، وأجيب عن بعض الحزورات.
ثمّة جزء لا أذكره، وبعد ذلك أرى عبّوش، في المساء، تجلس على جلد خروف في الفناء الداخلي لمنزلها المؤقّت في ساحة باب حسن. تعزف على مزمار من القصب، يسمّى: "تاوادت"، لحنًا تملؤه البهجة. وهنا أكتشف أنها فنّانة، وأتفاجأ، وتذهلني.
نقتات على زيت الزيتون والخبز الأسمَر، والخضراوات المطهوّة. عندما تقول "إيش" فهذا يعني "كُلي!" وعندما تقول لي "قاور" تعني: اجلسي بجانبي. وأخيراً بعدما هدأت وضعت رأسي على فخذ جَدَّة والِدَيَّ لأنام شيئًا فشيئًا.
■ ■ ■
سلا وقتَ الفجر. خلاء مَدينة تستيقظ متأخّرًا والأزقّة التي ترهّلت مع مرور الزمن. تزيّنت السماء بهالة من نور ساطِع. البهجة. أشعر أنّنا في منتصف النهار. جئت من بعيد وقضيت الليلة على قبر عبّوش. متمدّدة على برودة البلاط ذي الحواف المتكسرة والحادّة مثل الشفرة. وُلدت قرب هذه المقبرة التي يهدهدها همس البحر. هنا عند مصب النهر الذي تصُبّ مياهه في محيط المغادرين. أعزف للمرّة الأخيرة لحنًا أهديه لعبّوش. وأغادر من هنا مع مزماري الصغير "تاوادت" الذي أمسكه بيدي. قطعة تشهد على ثقافة أتيتُ منها وسيبقى فهمها عصيًّا عليّ إلى الأبد...
* روائية مغربية تكتب بالفرنسية من مواليد مدينة سلا عام 1981، وتعيش في مدينة بيزانسون بفرنسا
** ترجمة: نجم الدين خلف الله