بنى إيفو أندريتش عالمه السردي على صور نمطية للبوسنة مكاناً وتاريخاً، مسخّراً إيّاها في حركة داخلية ضمن رواياته وقصصه، كما ينبّه إلى ذلك الكاتب محمد م. الأرناؤوط في مقاله "قصص إيفو أندريتش.. إضاءات على صاحب الوجه العابس"، وهي نمطية كانت لها ارتداداتٌ سلبية على مشهد الأدب البلقاني.
لذا، بات اسم صاحب الـ"جسر..."، يختزل أسماء أدبيّة أُخرى من أبناء إقليمه. ثمّ جاءت "نوبل" التي نالها في ستينيّات القرن الماضي، لتفتح قنوات تلقّيه أدبيّاً، عند باقي الشعوب، إّنما بطريقة شديدة التحديد، بمعنى "أدب جوائز"، والموقف النقدي منه له حساسيته! نتساءل؛ أليس هذا شكلا من النّمطية أيضاً؟
نبقى في ذات السياق، وننظر إلى دَور الترجمة، التي تنشَدّ بدورها خلف أضواء الجوائز، وتفتّش في الحضور على حساب الغياب. وهنا، تستوقفني تجربة الروائي الألباني بسنيك مصطفاي (1958)، وعمله المميّز "ملحمة صغيرة عن السجن" الذي تُرجم إلى العربية عام 2021، بتوقيع إبراهيم فضل الله.
مع مصطفاي، نرتحل من نزعة المكان كعنصر بطولة أسطوريّة، إلى النّفس المُعذّبة تحت وقع مكان جحيمي هو السّجن، الذي لا يُمثّل الأسطورة المنشودة أو القديمة، بقدر ما هو تجسيد لسلطة سياسية قاهرة وحاضرة، عاشتها ألبانيا بالفعل أثناء الحكم الشمولي.
عربيّاً، إذا كان كلّ من "النهر" و"السجن" قد حضر أدبياً بفترات متباعدة، فوحدها الترجمة الجادّة يمكن لها أن تلعب دور "الجسر" الذي يُقيم جدليّة بين الطرفين، بعيداً عن النمطيّة والتكريس.