في عام 2006، قام أسقف قرطبة، خوان خوسيه أسينخو، بتسجيل مسجد قرطبة (مسجد - كاتدرائية قرطبة، كما يُطلَق عليه اليوم) باسم الكنيسة، ودفع مبلغاً مقداره ثلاثون يورو ليصبح الصرح ملكيةً عائدة للكنيسة الكاثوليكية، مثيراً بذلك جدلاً واسعاً، نظراً للأهمية التاريخية التي يتمتّع بها هذا الموقع التاريخي الذي صنفته "اليونسكو" عام 2014 كإرث ذي قيمة عالمية استثنائية، واستقبل في عام 2019 أكثر من مليوني زائر، وحقّق ما يقارب 15 مليون يورو من الأرباح.
وعلى الرغم من الجدل الكبير وغضب المجتمع المدني من استحواذ الكنيسة على المسجد، إلّا أنه لم يقم أحدٌ آنذاك بدراسة شاملة وتحليلية للنصوص التاريخية والوثائق التي استندت عليها الكنيسة في طلبها حقوق الملكية.
ها هو التاريخ، اليوم، ينصف مسجد قرطبة - حتى من وجهة نظر إسبانية، ويعود الفضل في ذلك إلى خيسوس بادييا (قرطبة، 70 عاماً)، الباحث التاريخي المتخصّص في العصور الوسطى، والذي بدأ منذ عام 2018 بمهمّة تقصّي وتحليل الوثائق التاريخية التي قدّمتها الكنيسة كوثائق ملكيّة، محيّداً في مهمته هذه الدلالات الدينية والسياسية والأيديولوجية، معتمداً على شيء واحد لا غير، الوثائق التي تذكر المسجد على مدى 600 عام.
يغوص بادييا في التشريعات المسيحية للعصور الوسطى، إضافة إلى السجلّات الملكية التي تشير إلى المسجد، ويصل إلى نتيجة مفادها أنَّ الكنيسة ليست لها أيّة سيادة على "المسجد - الكاتدرائية"، لأنّ فرناندوا الثالث "منح" (شرعية هذا "المنح" قصة أخرى) المسجد لرجال الدين لكي يكونوا "حرّاسه وخدمه"، ولكنه لم يمنحهم إيّاه كملكيّة خاصة. ويستند بادييا في نتيجته هذه على دلائل ووثائق تاريخية أهمُّها التقرير الصادر عن القساوسة الملكيّين في القرن السابع عشر، والذي جاء فيه أنّ "فرناندو الثالث منح المسجد المذكور للأساقفة والمجمع الكنسي من أجل عبادة الرب والاحتفال بالمراسم المقدّسة فحسب، بطريقة ليس من شأنها الإضرار بالسلطة الملكية العليا".
أثار استحواذ الكنيسة على المسجد غضب المجتمع المدني
بادييا الذي نشر في هذا الصدد بحثاً مطوّلاً تجاوز 500 صفحة مع حواشيها ومراجعها التاريخية حمل عنوان "مُلكيّة مسجد - كاتدرائية قرطبة. بحث وثائقي ودراسة تاريخيّة بين القرنين الثالث والخامس عشر"، يكشف أنّ الملكيّة التي تزعمها الكنيسة قائمة على أخطاء وغفلات مختلفة، لا سيما تلك الموجودة في المخطوطات القديمة. وكمثال على ذلك، يستشهد بالعديد من النصوص التي "غيّرت فيها أخطاء النسخ أو الحذف أو التفسيرات معنى النص الأصلي لصالح أطروحة الكنيسة".
بهذه الطريقة، يشرح بادييا كيف أصبح رجال الدين المديرين الفعليّين للصرح، في حين اهتمّ الملوك الكاثوليك بالوصاية عليه وحمايته، محتفظين بمكان الكنيسة الملكية، هذا من ناحية. أمّا من ناحية أُخرى، ولكي نفهم كيف وصل المسجد إلى وضعه الحالي، يعود بنا بادييا إلى التاريخ، وتحديداً إلى عام 1236 الذي سقطت فيه مدنية قرطبة ودخل فرناندو الثالث ومن معه من الأشراف، المدينةَ، ثم دخل الجامع، وهنالك استقبله أساقفة أوسمة، وبياسة، وقونقة، وسائر رجال الدين، وأُقيم في الحال قدّاس شكر بورك فيه الملك.
وفقاً لدراسة بادييا، فإنّ التبرّع الافتراضي بـ"المسجد - الكاتدرائية" في ذلك الوقت من قبل الملك للكنيسة الكاثوليكية، والذي لا توجد وثيقة واحدة تثبته وتدلّ عليه، تمّ في سياقٍ لم يكن ثمّة فيه فصل بين الكنيسة والدولة، كما نفهمه اليوم، بحيث لم تكن الدولة المسيحية في العصور الوسطى مؤلَّفة من التاج الملكي فحسب، بل ومن الكنيسة أيضاً. وهكذا مع تطبيق نظرية السيفين أو الولاء المزدوج، سيتَّضح أنّه لا التاج الملكي ولا الكنيسة؛ بمجرد تقديس الجامع القديم وتحويله إلى كنيسة ثم لاحقاً إلى كاتدرائية، ملكا المبنى بشكل فردي، إنما تقاسما مسؤولياتهما عليه، تبعاً لاختصاص كلّ مؤسسة.
من هنا، كان طلب الكنيسة بتسجيل المسجد كملكية خاصة باطلاً ولا صحة له تاريخياً، وهذا ما تؤكّده الوثائق التاريخية، كما يوضح بادييا. علاوة على ذلك، يشرح بادييا أنّ المستندات التي قدّمتها الكنيسة، والتي تستند فيها على "تأريخ العشرين ملكاً" كدليل على تبرُّع فرناندو الثالث بالصرح، هي نسخة نشرها فلورييان دي أكامبو، مؤرّخ الإمبراطور كارلوس الخامس، في القرن السادس عشر، غير أنّ ناسخها ارتكب أخطاءً فظيعة أهمُّها حذف التفصيل الذي يتعارض مع ادعاء الكنيسة بالتبرُّع.
الملكيّة التي تزعمها الكنيسة قائمة على أخطاء ومغالطات
غير أنَّ بادييا لا يتوقّف عند هذا الحد، بل إنه يحلّل أيضاً ويُثبت عدم دقّة الوثائق والتقارير الأُخرى التي استندت عليها الكنيسة في طلب تسجيل ملكيتها للمسجد، محلّلاً بموضوعية وحيادية الباحث التاريخي جميع هذه الوثائق، وأهمّها المرسوم الملكي لفيليب الرابع الصادر في عام 1659، والذي يذكر فيه الملك أسقف قرطبة "باعتباره المالك الشرعي للصرح المذكور"، على الرغم من أنّ القانون الكنسي، كما يشير بادييا، لا يعتبر الأساقفة مالكين، بل مديرين ومدبرين له.
ويتابع بادييا قائلاً في دراسته المعمّقة حول ملكية المسجد: "إذا ما قرأنا نصّ المرسوم كاملاً، ومن ثمّ المراسلات بين التاج الملكي والأسقف، سنفهم أنّ الأمر ليس أكثر من تبادلِ للمساحات داخل الكاتدرائية بين التاج والكنيسة"، ما يدلّ على أنّ التاج، الذي أصبح اليوم الدولة، احتفظ دائماً بجزء من ملكية ذلك الصرح الأموي الذي أمر "صقر قريش"، عبد الرحمن الداخل، ببنائه في عام 784، بمساحة لا تتجاور 73 متراً مربعاً، ليصل في نهاية الأمر مع المنصور إلى مساحة قدرها 20.396 متراً مربعاً.
اليوم، وبعدما ظهرت إلى العلن هذه الوثائق التاريخية التي تدحض فرضية الكنيسة بملكية المسجد، سيكون مثيراً للاهتمام معرفة رأي أسقف قرطبة آنذاك خوان خوسيه أسينخو، الذي صار اليوم رئيس أساقفة إشبيلية، والذي لا يزال مصرّاً على أنّ الكنيسة تملك المسجد، مطالباً بإبراز عكس ذلك، على اعتبار أنّ الكنيسة، كما صرّح أكثر من مرّة، "ليست لها أية مصلحة في تملُّك ما ليس لها".
ما لا شك فيه أن المجتمع المدني، الذي كان قد اعترض على تسجيل النصب التذكاري كملكية خاصة عائدة للكنسية، سيطالب بإلغاء هذا التسجيل والاعتراف به كنصب تاريخ ذي قيمة استثنائية.