الثقافة السورية في 2024: حالة احتضار انتهت بفرار الدكتاتور

03 يناير 2025
من عرض "ثنائيات" في مدرسة الفن بجرمانا للمخرج سمير عثمان
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تدهور الثقافة السورية: شهدت سوريا في 2024 تدهورًا ثقافيًا كبيرًا، حيث أزيلت بسطات الكتب وتحولت المكتبات العامة إلى محلات تجارية، مما أثر على حركة النشر وألغى معرض دمشق الدولي للكتاب. سيطرت حركة تزوير الكتب، مما أضر بحقوق المؤلفين، بينما استمرت دور النشر المستقلة في إصدار أعمال بارزة.

- استغلال المواقع الأثرية والفنون: استُغلت المواقع الأثرية لإقامة حفلات زفاف، وتعرضت الفنون التشكيلية للتدمير، مع اختفاء آلاف الأعمال الفنية. رغم ذلك، استمرت بعض المبادرات الفردية في دعم الفن التشكيلي.

- المسرح والموسيقى كملاذ: شهد المسرح السوري عروضًا أكاديمية متميزة، وظهرت حركة موسيقى بديلة كحل للخروج من الركود الثقافي، مما أرسل إشارات عن اقتراب سقوط النظام البائد.

مشهد واحد لخّص بسرعة حال الثقافة السورية لعام 2024، وتجلّى في جرافات أرسلتها سلطات النظام البائد على حين غرّة لإزالة بسطات الكتب من تحت "جسر الرئيس" (تغيّر اسمه بعد انتصار الثورة إلى جسر الساروت). منظرُ آلاف الكتب والمجلدات الممزّقة على أرضية الشارع تنقلها سيارات مخصّصة لنقل القمامة التابعة لمحافظة دمشق، فجّر غضباً كبيراً وقتها في أوساط المثقفين، فلقد عمل النظام البائد لسنوات طوال على إعدام أي ملمح يتّصل بالثقافة والفنون، فمن إزالة أكشاك الرسّامين في شارع الصالحية عام 2006 واعتقال أصحابها، إلى تحويل صالات سينما إلى سوق عرض مفروشات وأدوات منزلية ومطاعم. 

مجزرة الكتب تحت "جسر الساروت" واكبها اختفاءٌ تدريجي للمكتبات العامة من شوارع دمشق وحلب وحمص واللاذقية، من مثل مكتبات "ميسلون" التي تحوّلت إلى مركز للصرافة، و"الزهراء" التي تحوّلت إلى سوبر ماركت، في حين صارت "مكتبة اليقظة" محلّاً لبيع الأحذية! المصير ذاته لاقته مكتبات "الخيّام" و"الرسام المجاني للأطفال" في اللاذقية، ومثلها مكتبات "استانبولي" و"الفجر" و"عفش" في حلب.

إعدامات جماعية ترافقت مع انحسار حركة النشر في البلاد، وإلغاء "معرض دمشق الدولي للكتاب"، الذي أحاله كلٌ من اتحاد الناشرين السوريّين ووزارة الثقافة لما سموه "معرض الكتاب السوري"؛ وهو فعالية هزيلة سيطرت فيها منشورات "اتحاد الكتّاب العرب" على مجمل أجنحتها، فيما انفضّت دور النشر السورية عن المشاركة في فعالياته من مثل "التكوين" و"كنعان" و"ورد"، وانحصرت أنشطة هذا المعرض المحلي بتواقيع كتب لأعضاء اتحاد الكتّاب، واقتصرت فعالياته على ندوات خشبية لهم عن المقاومة والصمود والتصدي.


تزوير الكتب

واقع دور النشر السورية شهد هو الآخر احتضاراً مماثلاً، فعلى الرغم من الرقابة المُسبقة على الكتّاب والدوريات في "سورية الأسد"، وغلاء أسعار الورق والطباعة، إلّا أنَّ هذا القطاع شهد مبادرات جدّية لإبقاء الكتاب السوري حاضراً في معارض الكتب العربية، في الوقت الذي أفسحت وزارة الثقافة في حكومة النظام البائد لحركة تزوير الكتب بالنشاط، وغضّت النظر عن تزوير عشرات العناوين وقرصنتها في وضح النهار، بل وسمحت لهذه الدور بأخذ مواقع الصدارة لأجنحتها في "معرض الكتاب السوري"، معلنةً إعدام حقوق عشرات المترجمين والمحرّرين والمدققين اللغويين ومصمّمي الأغلفة.

اللافت أكثر من ذلك هو سيطرة أعضاء اتحاد الكتّاب على لجان القراءة في "الهيئة العامة السورية للكتاب"، إذ تحوّلت هذه الأخيرة في معظم ما تنشره إلى طباعة دواوين أعضاء الاتحاد الشعرية وتصدير رواياتهم وكتبهم عن المؤامرة الكونية، فيما أطلقت وزارة الثقافة في حكومة النظام البائد أيادي هؤلاء في تمحيص المخطوطات وفحص زمرة ولاء كتّابها، في الوقت الذي استمرت دائرة الرقابة في وزارة إعلام النظام والمؤسّسة العامة للمطبوعات في منع الكتب التي تتحدّث عن الثورة السورية، وعدم إعطاء موافقة تداول لها داخل أراضي القطر.     

من موقع مجزرة الكتب تحت "جسر الساروت"
من موقع مجزرة الكتب تحت "جسر الساروت"

هذا الواقع لم يمنع دور النشر المستقلة من متابعة إصداراتها، فلقد سجّلت "دار نينوى" قائمة لافتة لعناوين في الرواية والترجمة والدراسات، ومن أبرز هذه الإصدارات كان كتاب "التاريخ الثقافي للألم" لمؤلفها خابيير موسكوسو، وترجمة حسني مليطات. في حين أصدرت "دار التكوين" أعمالاً بارزة لعل أهمّها سلسلة "إشراقات" الشعرية التي يشرف عليها الشاعر أدونيس، كما صدرت عن الدار نفسها "الأعمال الشعرية الكاملة لولت ويتمان" بترجمة عابد إسماعيل، وأصدرت "دار ورد" كتباً لافتة في هذا المجال منها "نادي المتفائلين غير القابلين للإصلاح" للفرنسي جان ميشيل غوناسيا، ورواية "علي في بلاد العجائب" للكاتب الإسباني ألبرتو باثكث فيكيروا، وترجمة عبدو زغبور.
 

آثار وقلاع لإقامة الأفراح

وإذا كان واقع حركة النشر السورية والمكتبات العامة في حالة اضمحلال وكساد، فإن واقع المواقع الأثرية ليس أفضل حالاً منها، فلقد أخضع النظام البائد مجمل المواقع التاريخية في كلٍّ من دمشق وحمص وحلب لتصير بمثابة ملاهٍ وصالات لإقامة الأفراح. هكذا تم تأجير خان أسعد باشا الأثري لإقامة عرس لعاصم الأسد وغيا كنعان، حفيدة وزير الداخلية السابق غازي كنعان، وبتكلفة وصلت إلى 500 ألف دولار أميركي، في الوقت الذي كان يعاني فيه غالبية الشعب السوري من الفقر والجوع والحرمان.

تأجير المواقع الأثرية لإحياء أعراس آل الأسد وحاشيته امتد ليشمل كلّاً من قلعة دمشق وقلعة الحصن والبيمارستان النوري وقصر العظم، والعديد من الأوابد الأثرية المُسجّلة على لائحة التراث العالمي في منظمة اليونسكو. اللافت هنا أنّ تأجير هذه القلاع التاريخية كان يجري بموافقة من "مديرية الآثار والمتاحف" في وزارة الثقافة، لكن بأبخس الأجور، إذ تعرضت العديد من المواقع للتخريب بسبب إطلاق الألعاب النارية في حفلات زفاف وصفت بالأسطورية، وضرب القائمون عليها عرض الحائط بأيّة حرمة لتراث سورية الحضاري والتاريخي، في حين كان يُمنع على العديد من الفنانين والمثقّفين السوريين تقديم أنشطة داخل تلك المواقع إلا بشق الأنفس، أو عبر موافقات أمنية غالباً ما تكون بشروط تعجيزيّة.

صورة من العرس الباذخ في قلعة دمشق التاريخية
صورة من العرس الباذخ في قلعة دمشق التاريخية

ولم يكن حال المواقع التاريخية التي كرّسها النظام البائد لإحياء الأفراح أحسن حظاً من عشرات المواقع الأثرية التي تعرّضت للنهب المنظم، وقد استرد المتحف الوطني في دمشق منذ عام 2022 ما يقارب 35 ألف قطعة، وكلّها قطع أثرية أصلية تعود لفترات مختلفة من التاريخ، ومنها السرير الجنائزي وتماثيل نصفية كانت مُعدّةً للتهريب خارج سورية، لكن ما لم يفصح عنه القائمون على مديرية الآثار والمتاحف هو مصير المومياءات التدمرية، حيث كانت الحكومة اليابانية قد قدّمت عام 2005 منحة تجهيزات متحفيّة سمعية وبصرية تقدر بـ 49 مليون ين ياباني، وذلك ليتم عرض هذه المومياءات التي تعود إلى القرن الأول للميلاد في قاعة خاصة لها ضمن حرم المتحف.

ويبدو ملف الآثار متمّماً لهول ما تعرّضت له سوق المهن اليدوية في التكية السليمانية في دمشق، والتي قامت "الأمانة السورية للتنمية" التابعة لزوجة الرئيس المخلوع أسماء الأخرس بطرد حرفيّيها وورشهم إلى الشارع بعد توجيه إنذارات لهم بالإخلاء الفوري. عشرات المهن التراثية القديمة مهدّدة بالانقراض اليوم بعد أن وجد أكثر من أربعين شيخ كار أنفسهم في العراء. من هذه المهن القديمة صناعة السيف الدمشقي، وآخر نول لحياكة البروكار والدامسكو، إضافةً لحرفيي الخط العربي والزجاج المعشّق والخزف والقيشاني والنحاسيات والأزياء التقليدية.

 

حديقة حيوانات تحتل متحف الفن

حركة الفن التشكيلي السوري ربما تكون هي الأكثر ابتعاداً عن هيمنة مؤسّسات النظام البائد، لكنها عانت هي الأخرى من تدمير ممنهج للذاكرة، فحتى الآن لم يعرف مصير أكثر من 14 ألف عمل فني في مستودعات مديرية الفنون الجميلة التابعة لوزارة الثقافة، فلقد ابتلعت الرطوبة والإهمال أعمالاً كانت الوزارة قد قامت باقتنائها في معرضي الربيع والخريف لكل من فاتح المدرّس ونذير نبعه ولؤي كيالي ونصير شورى ومحمود حماد، فيما تم التعتيم من قبل إدارة المتحف الوطني في دمشق على اختفاء أعمال لكلٍ من سعيد تحسين وناظم الجعفري وحمود جلال وألفريد بخاش من قسم الفن الحديث في المتحف، وذلك عبر تهريب هذه الأعمال وبيعها إلى صالات ومزادات الفن في العالم.

ولم تنجح كل نداءات الفنانين التشكيليين في البلاد بتلبية مطالبهم بإقامة متحف للفن الحديث، فلقد تم تحويل قطعة الأرض التي كانت مخصّصة لإقامة هذا الصرح الثقافي لحديقة حيوانات في منطقة العدوي في دمشق. إذ بقيت المبادرات التي قام بها فنانون يديرون صالات مستقلة في البلاد في إبقاء جذوة التشكيل مستمرة، ولعل أبرز تلك المبادرات جاءت من "صالة عشتار" لمديرها وصاحبها الفنان عصام درويش، والذي أقام معارض لكل من فدوى شهدا وغيث ضاهر وفاطمة إسبر وسيماف حسين وميسر كامل.

وقدّمت "غاليري البيت الأزرق" معرضها السنوي لنحاتين سوريين منهم مصطفى علي، ونجود الشومري، ولطفي الرمحين، وفؤاد أبو عساف، في حين واظبت "صالة جورج كامل" على إقامة معارضها الاستعادية لكلٍّ من يوسف عبدلكي ونعيم إسماعيل ومصطفى الحلاج، وتبدو هذه المبادرات مع انعدام سوق بيع واقتناء الأعمال الفنية نوعاً من مخاتلة واقع أمسى أكثر صعوبة لفناني البلاد عام 2024، حيث أمسى مصير معظم هؤلاء في أيدي تجار الفن، وصاروا عمّالاً تشكيليين ينتجون أعمالاً على القطعة مقابل أجور شهرية.

أرسل الواقع الثقافي إشارات عن اقتراب سقوط النظام
 

استغلالُ الفنانين التشكيليين من قبل تجار الأعمال الفنية أمسى واقعاً فعلاً، فلم يعد الفنان يبيع لوحاته، بل يعمل غب الطلب كأي عامل مياومة، وهذا يعكس حجم الانهيار الشامل في المشهد التشكيلي السوري، في الوقت الذي واظب فنانون آخرون على التزام محترفاتهم الشخصية في كل من حارة اليهود الدمشقية. مراسم ومحترفات كل من مصطفى علي وعبد الله مراد وإحسان عنتابي وسنا أتاسي، إضافة لكل من إدوار شهدا وغازي عانا ونبيل سمان وسهيل بدور وسبهان آدم بقيت هي الأخرى ملاذاً أخيراً بعد هيمنة بعثيي النظام البائد على عمل وقوانين اتحاد التشكيليين السوريين، وجعل هذا الاتحاد مركزاً لجباية الاشتراكات من أعضائه.

غياب موضوعة الثورة عن أعمال التصوير الزيتي والغرافيك والنحت في معرضي الخريف والربيع، كان أيضاً لافتاً في معظم ما قُدِّم لهذا العام، إذ اقتصر الفنانون المشاركون على تقديم مشهديات عمرانية من المدن والبلدات السورية، إضافة لأعمال البورتريه، والمناظر الطبيعية الريفية. مفارقة شطب الثورة من المحترف السوري تبقى لغزاً محيراً، وتطرح أسئلة كثيرة عن الرقابة الصارمة على الأعمال المشاركة، في حين تميزت أعمال النحت باعتماد فنانيها على خامات الخشب والمعدن واللحام، وتقنيات السكب والصب، مقدمين تكوينات تجريدية بالعموم. في حين حضرت بعض الأعمال التجسيدية متكئةً على خامتي البازلت والبرونز.

ويمكن الانتباه في معرضي الخريف والربيع لسيادة طرق العرض التقليدية، وأهمها لوحة الحامل، وغياب الفنون المعاصرة من تجهيزات الفضاء والفن التركيبي (الإنستليشن) وفنون الفيديو آرت، وفنون ما بعد الرسم والإنشاء الصناعي، والتي غالباً ما تحتاج إلى خامات متنوعة، وفضاءات متداخلة مكانياً مع الواقع. حافظت المعارض الدورية السورية على عروض اعتيادية للغاية، مما فوت الفرصة على جيل الفنانين الشباب لتطوير أعمالهم نحو ما يسمى اليوم بالفن المفاهيمي، والذي يعتمد على مؤثرات صوتية وبصرية ذات طابع حداثي ومعاصر، ويكون غالباً خارج الصيغ المعهودة لثنائية الربيع والخريف السوريين.    

 

عروض أكاديمية أنقذت المسرح

هذا التقهقر المرعب في المشهد الثقافي السوري، واستفراد النظام البائد بواقع الثقافة والفنون، قابله عدد من المبادرات الفردية من فنانين ومثقفين آثروا ألا يتركوا مسارحهم وصالات عروضهم لإرادة الطاغية، فظلّوا يعملون على تقديم مبادراتهم في السينما والمسرح والموسيقى، ولعل المسرح السوري أنصع مثال عن حالة الاحتضار الشاملة التي شهدتها الثقافة السورية في عام 2024، فلقد انفضّ معظم المسرحيّين عن العمل مع المسرح القومي، وذلك بعد تدهور الأجور وعدم توفّر البيئة التقنية المناسبة لعروضهم.

وتبدو عروض الأكاديميات المسرحية في طليعة العروض التي يمكن التعويل عليها عام 2024، سواء من حيث السوية الفنية أو حتى على صعيد الحضور القوي لممثليها، ولعل على رأس هذه الأكاديميات يأتي المعهد العالي للفنون المسرحية بعروض أكثر حرفة وتأمّلاً على صعيد الإخراج والأداء والعناصر التقنية والجمالية، وأكثر تمرداً على عقلية الرقابة السائدة في المسارح الرسمية. 

من عرض "اللعبة الخطرة" لمجد فضة
من عرض "اللعبة الخطرة" لمجد فضة

هكذا على التوالي قدّم حسن دوبا عرضاً بعنوان "بعض من شكسبير"، وفيه استقى المخرج الشاب شخصيّات من نصوص "ماكبث" و"هاملت" و"تاجر البندقية"، إضافةً لـ "ريتشارد الثالث" و"عطيل"، جامعاً إياها في سياق جرائم الاغتيالات السياسية في الدراما الشكسبيرية، فيما قدّم الفنان مجد فضة عرضه "اللعبة الخطرة" عن نص بالعنوان نفسه للكاتب الصربي برانيسلاف نوشيتش، دمجه مع نصوص أخرى للكاتب نفسه؛ هي: "الماستر دولار" و"المرحوم" و"حرم سيادة الوزير". 

وقدم "اللعبة الخطرة" أداء مغايراً لقوالب الأداء التقليدية للإطلالة على واقع أثرياء الحروب، تماماً كما كان الحال مع عرض "بتوقيت دمشق" لمخرجه عروة العربي، الذي لعب على مسرح الارتجال لتقديم فرضية الأم المحتضرة وأبنائها في لعبة درامية تكاد لا تخبو حتى تعود وتتوهج ضمن أداء جماعي لافت، فقد ناقش العربي من خلال هذا العرض ظاهرة المخفيين قسراً في سجون النظام المجرم عبر لعبة تمويه متقنة عن أعين الرقابة. 

ومن أبرز العروض التي أنتجها المعهد العالي للفنون المسرحية لهذا العام كان عرض "ليلة مرتجلة" لمؤلفها ومخرجها يزن الداهوك، وفي هذا العرض يحضر فنّ التمثيل موضوعا لشخصيات العرض الست، فيما يكشف لقاء الأصدقاء في بيت أحدهم تورّمات الأنا وأمراضها المزمنة، إذ قدم العرض تشريحاً متقناً لحال الوسط الفني ومحسوبياته في ظلّ حكم الرئيس المخلوع، فقدّم تصوّراً عن نمط شركات الإنتاج السائدة في البلاد، وكيف تدير صفقاتها المشبوهة بطريقة الرشوة الجنسية واغتصاب الممثّلات الصاعدات. 

وليس بعيداً عن هذا المستوى من الأداء، قدّمت كلية الفنون للأداء (اللاذقية) عرضين من كلاسيكيات النصوص المسرحية. الأول هو "المفتش العام" لنيقولاي غوغول، وجاء بتوقيع فؤاد العلي، أما الثاني فهو "حلم ليلة صيف"، وجاء بإمضاء الفنان سامر عمران، وفي كلا العرضين تابع الجمهور صيغة مبتكرة لامتحان الممثل على عتبة الاحتراف، وخرج من صالات العلبة المسرحية إلى فضاء الأماكن البديلة. ناقش العرض الأول الفساد المستشري أيام النظام البائد، فيما خلص العرض الثاني إلى تقديم رثاء غير مباشر لمدينة اللاذقية في ظل حكم البعث، وكيف استحالت المدينة البحرية إلى أطلال وحشود وظلال بشرية.  

الفنان سمير عثمان الباش لم يتأخر عن هذا النوع من الطرح الفني، فلقد قدم في مدرسة الفن المسرحي (جرمانا) عرضين مميزين. الأول عمل فيه الباش على مسرح الكوميديا ديلا رتي، وجاء بعنوان "تحت شجرة الصفصاف في ضوء القمر"، أما الثاني فجاء بعنوان "لقاءات" وهو مشروع تخرج الدفعة السادسة من دفعات مدرسة الفن، وقدم الباش عبره مسرحيات ثنائية قصيرة أطلت بقوة على واقع السوريين في ظل نظام البعث، وكيف عملت المنظومة الحاكمة على بث التفرقة بين أبناء الشعب الواحد.

بدوره قدم الفنان كفاح الخوص عرضاً مفاجئاً في هذا السياق بعنوان "مع سبق الإصرار" عن نص من إعداده بالشراكة مع لوتس مسعود، والنص مقتبس عن مسرحية "المنتحر للكاتب الروسي نيكولاي إيردمن. جاء العرض من إنتاج "دراما رود" وضم أكثر من ثلاثين متدربا ومتدربة خضعوا لورش إعداد الممثل وتربية الذائقة الفنية، وقد غاص العرض في خفايا لعبة الموت السورية، وكيف استثمر النظام في صناعة ثقافة الوهم وتقديسها.

دار الأوبرا السورية أنتجت لعام 2024 عرضاً راقصاً بعنوان "خدر" لمخرجته ومصممته الكريوغراف رهف الجابر، وفيه تناولت الجابر أزمة مجموعة من الشبان والشابات لا يجدون أرضاً يقفون عليها، فلقد أحالهم النظام البعثي إلى مجرد كائنات عديمة الملامح. الأمر ذاته ناقشه العرض البصري الرقمي "كونتراست" للفنان أدهم سفر، والذي كان له قصب السبق في اقتحام مجال المسرح الرقمي الذي دمج بقوة بين الأداء والغرافيك والفيديو مابينغ من جهة، وبين الضوء والرقص والموسيقى الحية. ناقش كونتراست" موضوعة الثورة السورية عبر جسد ينفجر إلى أجساد قضت تحت التعذيب في تورية لعبها سفر موظفاً الموسيقى الحية لمساندة الأداء الراقص على الخشبة.

 

صالات سينما تحولت إلى مطاعم

وشهد عام 2024 تراجعاً ملحوظاً في الإنتاج السينمائي، فلقد عمل مدير عام مؤسسة السينما مراد شاهين على منع العديد من الأفلام، وتسبّب بإغلاق العديد من الصالات، من أبرزها صالة كندي حمص. هكذا على التوالي تم منع فيلمين لمخرجهما غسان شميط، وهما فيلم "ياسمين شوكي" و"حيِّ المنازل"، وهذا الأخير تمَّ منعه بسبب تصويره لمظاهرة سوق الحميدية في 15 آذار من عام 2011، أما الفيلم الوثائقي "ياسمين شوكي" فقد منع بعد أن وثّق مخرجه قيام جنود وضباط روس في قاعدة حميميم الجوية باستدراج فتيات سوريات قاصرات واغتصابهن عبر شبكة قوادة محلية. الأمر الذي أدى إلى تشكيل وزيرة الثقافة في حكومة النظام لبانة مشوح لجنة رقابية لبدء مساءلة كل من المخرج شميط وكاتب الفيلم.

كما شهد هذا العام استيلاء عدد من رجالات أعمال وتجار النظام البائد على العديد من صالات العرض السينمائية، فتحوّلت "سينما الأهرام" إلى صالة عرض مفروشات وعصرونية، فيما تحولت "صالة سينما الهبرا" في حي باب توما إلى مطعم، ومثلها "سينما راميتا" التي انقلبت بين ليلةٍ وضحاها إلى مقهى نراجيل ولعب الورق. واقع كان سيطر لسنوات على مجمل العملية الإنتاجية السينمائية في البلاد، حيث حرصت الإدارات المتعاقبة على "المؤسّسة العامة للسينما" على تحويلها إلى مزرعة شخصية.

وقامت جهة مجهولة تدعى "ميديا للمرئيات والصوتيات" بنشر أكثر من مئتي فيلم من إنتاج "المؤسسة العامة للسينما" على موقع "يوتيوب"، ليتّضح أن إدارة المؤسّسة العامة للسينما قامت ببيع هذه الأشرطة مقابل مبالغ مالية ضخمة، في الوقت الذي تم فيه إهمال السينماتك (مكتبة الأفلام) التي أسّستها المؤسسة في "صالة كندي" دمشق عام 2017، وهي غير مُتاحة للجمهور. الأمر الذي نسف حقوق التأليف لعشرات الفنانين والكتّاب الذين عملوا مع المؤسسة منذ إنشائها عام 1960، كما أن هذه الخطوة تعدُّ مخالفة لطابع المؤسّسة الاقتصادي الثقافي في استرداد عائدات الأفلام وتوزيعها لصالح خزينة الدولة.

جمهور أمام صالة سينما "الكندي" تظهر فيها الفنانة الراحلة مي سكاف
جمهور أمام صالة سينما "الكندي" تظهر فيها الفنانة الراحلة مي سكاف

في ظل هذا الفراغ الإنتاجي المزمن أقدمت "أكاديمية شيراز" على إنتاج العديد من الأفلام الروائية القصيرة لمخرجين جدد، وكان أبرز هذه الأشرطة "نهاري ليلي" لطارق مصطفى عدوان، و"العنزة" لعبد اللطيف كنعان، و"خلص الشحن" ليزن أنزور، و"إيجابي" لرامي نضال. السلسلة السينمائية قدمت اتجاهاً مغايراً عن أفلام القطاع العام، وتعرّضت بجرأة للقمع الذي طاول المرأة والطفل في ظلّ النظام البائد، وكيف أحال البعث البشر إلى أغنام بشرية خائفة استحكم بها الهلع من الماضي والحاضر، ودون أي أمل بمستقبل تسوده العدالة وحقوق الإنسان.

وتمكّن المخرج جود سعيد من تحقيق فيلمه "سلمى" خارج إستوديوهات المؤسسة؛ وهو شريط روائي طويل (جود بروداكشن) يتعرّض لواقع المعتقلين في سجن صيدنايا العسكري. يرصد الفيلم (100 دقيقة) حكاية معلّمة تنتظر زوجها المعتقل في سجون النظام البائد منذ عشر سنين، وتتعرّض للتحرّش والاستغلال الجنسي من أحد المتنفذين لدى النظام، وعندما لا ترضخ لإرادته في إذلالها وتصوير مقطع فيديو تساند فيه حملة انتخابية لشقيقه الفاسد، يتم الانتقام منها وطردها من وظيفتها. 

 

موسيقى بديلة

حال الموسيقى والموسيقيّين السوريّين لم يكن أفضل من حال زملائهم في السينما والمسرح والتشكيل، إذ يمكن رصد نزيف العديد من الأسماء المهمة في الريبرتوار الموسيقي منذ قيام الثورة، والذي شمل أبرز أساتذة ومدرّسي المعهد العالي للموسيقى، وكان أبرزهم مالك جندلي وعصام رافع وكنان العظمة ولينا شماميان ورشا رزق، إضافة لكل من لبانة قنطار وديما أورشو وشادي علي، وقد وصلت نسبة هؤلاء إلى غالبية كوادر الأوركسترا السيمفونية الوطنية وأوركسترا الموسيقى العربية.

وعاماً بعد عام صار من الصعوبة إقامة حفلات دار الأوبرا التي سيطرت عليها سلطات النظام البائد، وجعلتها رهناً لحفلات تخرّج المدارس الخاصة التابعة لأبناء الرئيس الفار بشار الأسد وحاشيته، إذ شهدت دار الأوبرا تراجعاً في حفلاتها، واقتصرت على التشريفات وإقامة فعاليات تمجّد وزارة الثقافة وعيدها السنوي، والذي اقتصر الحضور فيه على موظفي الوزارة وقيادات حزب البعث.

أمل بتفجر طاقات قُمعت وهُمّشت على مدى أكثر من نصف قرن
 

حركة الموسيقى البديلة كانت هي الحل للخروج من هذه السكونية التي شهدتها المؤسّسات الرسمية، إذ نظّم الموسيقي وعازف القانون عبد الله شحادة أمسيات فنية في بيته في دمشق القديمة، مثلما نجح الفنان سيمون مريش في استقطاب عشرات من جمهور موسيقى الجاز والبلوز لحضور أمسياته شبه اليومية في مقهى "قهوة مزبوطة". الأمر الذي ساق إلى الذاكرة العديد من التجمعات والفرق الفنية التي غادر عازفوها البلاد، ومنهم "كلنا سوا" و"حرارة عالية" و"مقامات" و"التخت الشرقي النسائي".

هذا الواقع الثقافي لعام 2024 أرسل إشارات قوية عن اقتراب سقوط النظام البائد بكل تمظهراته، وأفسح في المجال اليوم لثقافة سورية حرّة من عقيدة البعث وأفكار مناصريه، إذ بدأت ترتسم معالمها منذ اليوم الأول لفرار بشار الأسد وعائلته، ومن هذه العلائم كان ظهور "التجمع الثقافي السوري" الذي يضم في صفوفه مخرجين وكتّابا وفنانين ومثقفين وناشطين من كل أطياف المجتمع. الأمر الذي يعد بولادة تيارات فنية وثقافية خارج الحياة الحزبية، ويفجر طاقات كانت مقموعة ومهمّشة على مدى أكثر من نصف قرن.

المساهمون