سأل مذيعٌ طفلاً فلسطينيّاً: "ماذا تُريد أن تكون عندما تكبر؟". أجابه الطفل قائلاً: "نحن أطفال غزة لا نكبر".
يستدعي السؤال جواباً آخر، لو كان الطفل ليس من غزة، أي لو أنه لم يكن فلسطينياً، يعني أنه سيعيش حياة طبيعية، يكبر ويحبّ ويتزوّج وينجب أطفالاً، وقد تُصادفه فُرص، فيسافر ويتعرّف إلى بلدان وبشَر، ويجني في مجال العمل ثمار جهده، وقد يُصبح عبقرياً مشهوراً، أو من أصحاب الملايين.
بينما الطفل الفلسطيني، لا ضمانة تكفل له منذ كان في القِماط، ألّا يموت من الجوع لعدم توفّر الحليب، أو بشظيّة قُنبلة، إن لم ينشأ يتيماً. وقد يكبر عدّة سنوات. أمّا أن يُصبح يافعاً، فلا بدّ أن يُصادفه الحظّ، ربما قُتل برصاص جندي إسرائيلي قصداً أو "عن خطأ".
لكنّ الأمل ضئيلٌ ليبلغ سنّ المُراهقة، وإذا بلغها فلن يتعرّف إليها، سيقضيها في التظاهُر، ما يحتاج إلى دفعة أُخرى من الحظّ ليبقى حيّاً. هذا إن لم يحمل السلاح مبكّراً، عندئذ الأمل شبه معدوم، لن تراه أمّه يعود إلى البيت إلّا شهيداً أو جريحاً، غالباً سيُزجُّ به في مُعتقل، لا يخرج منه أبداً، ولو عاش أكثر من حياة، الأحكام في "إسرائيل" أكثر من مؤبّد واحد. إذن لن يعرف الحياة كلّها إلّا بين أربعة جدران، وقد يغمض عينيه على الجدران نفسها، إن لم يُنقل إلى معتقل آخر. هذا إذا امتدّ به العُمر طويلاً، ولم يمُت مُضرباً عن الطعام.
لأنه وُلد في فلسطين صار مُهدَّداً في كلّ مراحل حياته
لماذا مصيره مُهدَّد في كلّ مرحلة من حياته؟ هذا عادي، لقد وُلد في فلسطين، وأصبح أحد أفراد القصة الفلسطينية. بداية، في حال نجا من الموت المبكّر والمتأخّر، نادراً ما سيعيش كما يعيش أقرانه من بلدان الجوار والعالَم، مسيرة حياته مفتوحة على جميع الاحتمالات، الاحتمال الأرجح، لا محيد عنه، فالاختيارات تكاد أن تكون معدومة، والأسباب كثيرة أحدها أنه يحيا في بلد محتلّ تحت حكم عسكري عنصري، ولديه القناعة بأن دولة الاحتلال سرقت وطنه، واستحوذ على بلده قادمون من بلاد العالَم، بينما هو مُحاصر في سجن كبير، معدوم الفرص، ومعرّض للطرد منه. حياته في الداخل تعدُه بالقليل، وربما بلا شيء. لا خيار، ولا بديل إلّا المقاومة، ولو أنه سيتعرّض للموت لكن بكرامة، أكثر من الحياة بمهانة. هكذا الأمّهات الفلسطينيات يُنجِبن أولادهنّ ليكونوا قرباناً للحرّية، أو فريسة للشقاء.
مفهوم العدالة ليس غائباً عن العالَم، وما أكثر القوانين التي صِيغت بوحي منه، ورغم أنه مفهوم نظري، فليس محض خيال، كانت له تطبيقات على الأرض، الإنسانية بحاجة إلى العدالة لتثبت أنّ البشر قادرون على تسيير أمورهم من دون ظُلم ومظالم، وليسوا مُستسلمين لأقدار تفرضها عليهم حكومات شريرة، ولا غُزاة مجرمون، إذا رضخوا لهم، فقد عادوا إلى قانون الغاب.
في عصرنا، لم يطرأ تحريف على مفهوم العدالة، وإنما تجاهُل له على أرض الواقع بالنسبة للقضية الفلسطينية، وما جعل هذا التجاهل فعّالاً؛ دولٌ ومؤسسات ومصالح وسياسات بمختلف أنواع الذرائع، كالتكفير عن الذنب والغفران واستثمار لـ"الهولوكوست"، و"شعب الله المختار"، والعودة إلى الأرض المقدّسة، واستباحة البشر تحت راية التوراة، لا حقوق للشعب الفلسطيني باعتباره طارئاً على الأرض... وغيرها كثير، تحلّل ارتكاب الجرائم إلى حدّ يعتبر انتقاد تجاوزات "إسرائيل" الدموية "معاداة للسامية"، وبات التهليل لتصريح سياسي يميني موتور بتهجير الفلسطينيّين عنوة، غير مدعاة للنقد... لم يعُد الإفراط في الادّعاءات إلّا تسويغاً لارتكاب المجازر.
هذا العالَم بحاجة إلى الضمير كي يعود إلى صوابه، بعدما جرى استبعاده، إن لم نقُل الإلغاء كلّيةً من قاموس الإنسانية، وإحالته إلى برنامج مُكافحة الضمير، وإحالة فلسطين إلى قصة إسرائيلية محضة. لم يعُد من السهل عملُ الضمير في ظروف صعبة ومعقّدة، فبدا وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، لكنّه باغتنا طالعاً ممّا يُشبه الموت، في لحظات حاسمة، ظهَر فيها الانقسام بين شعوب الدول الكبرى وحكوماتها.
مسيرة حياة مفتوحة على الموت أو الاعتقال في بلد مُحتلّ
تبدّى بحراك الناشطين في أنحاء العالَم من طلبَة جامعات ومدارس، وعلماء ومثقّفين وصحافيين، ونجوم سينما ومتحدّثين في وسائل التواصل ومنظّمات إنسانية، وكذلك يهود ضدّ دولة "إسرائيل"... شكّلوا ظاهرة يومية نَشطة، ولو كان حجمها متواضعاً بالمقارنة مع الدول وأصحاب المصالح الاقتصادية، والسياسيّين ذوي النظرات التقليدية المَدينة للاستعمار القديم، ما كشف عن ظاهرة مُعافاة تُغذّيها قِيم العدالة والمبادئ الأخلاقية، ظاهرة إلى توسّع وامتداد وانتشار.
بالعودة إلى الطفل الذي اتّخذ موقعاً في القصة الفلسطينية، التي لم تتوقّف فصولها من ثلاثة أرباع القرن، إذا كبر، ستكون الدول الكُبرى قد كرّست له واقعاً من الظُّلم المُطلَق على أنه حقيقة ليس هناك غيرها؛ اللّاعدالة كأمر واقع، كما في حرب غزة اليوم.
إذا كُنّا قد تكلّمنا عن الطفل الفلسطيني، فلا بدّ من الكلام عن الطفل السوري، هو أيضاً قد لا يكبر، طالما أنه مُهدّد مثله تماماً، مُنذ أن يرى النور أو قبل أن يراه، من جيش النظام العقائدي المدجّج بالبراميل المتفجّرة والكيماوي. ومهدّدٌ من المليشيات الإيرانية، أيضاً، وعلى رأسها حزب الله، لا يوفّرون رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً، على أنها مهمّة دينية دفاعاً عن المراقد المُقدّسة، ما حوّل سورية كلّها إلى مرقد مُقدّس مستباح. وأيضاً من الطيران الروسي، الذي لا يكفّ عن قصف المدنيّين بالجُملة، ولا نجاة للأطفال.
هذا الموت مُسلّط على السوريّين منذ ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً، من أجل بقاء عائلة على سُدّة الحُكم، لم يعُد لها من عمل إلّا مواصلة النهب والقتل. يعتقد النظام الدولي والعربي أن وجودها على هذا النحو ضروري لـ"إسرائيل"، يمنح البراءة لجرائمها، بدعوى هكذا يعامل العرب شعوبهم المتمرّدة.
أخيراً، للتذكرة، هناك أطفالٌ في فلسطين وسورية، لم يظفروا بالنور، قُتلوا وهُم أجنّة في بطون أمّهاتهم. هذا إنجاز للنظام السوري، و"إسرائيل"، وبُلدان الديمقراطيات.
* روائي من سورية