الرقابة في أشكالها الجديدة

04 نوفمبر 2024
من احتجاج أمام "هيئة الإذاعة البريطانية" بلندن ضد تحيز الإعلام البريطاني للسردية الصهيونية
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يرى جون ميلتون أن الرقابة تعيق الفكر العقلاني وتمنع المعرفة، مشيرًا إلى امتدادها لوسائل الإعلام الاجتماعي في عصر الذكاء الاصطناعي.
- تطورت الرقابة لتصبح جزءًا من عملية التحرير، حيث تُفرض قيود على الأفكار، محذرين من خطرها على الفكر النقدي والتغيير الاجتماعي، خاصة في السياق العربي.
- في الولايات المتحدة، تتعرض الكتب للرقابة لأسباب تتعلق بالعرق والجنس، وتصاعدت في عهد ترامب، مع احتمالية دخولها مرحلة جديدة بناءً على نتائج الانتخابات المقبلة.

"من يُتلف كتاباً جيّداً يغتال العقل"، هكذا عبّر الشاعر البريطاني جون ميلتون، مؤلّف أوّل كتاب مهمّ ضدّ الرقابة على المطبوعات بعنوان "أريوباجيتيكا: خطبة السيّد جون ميلتون في حرية الطباعة غير المرخّصة إلى برلمان إنكلترا" (1644)؛ إذ يرى ميلتون أنّ منع الكتب لا يؤثّر في الكتاب نفسه فقط، بل يقضي على الفكر العقلاني ويُعرقل تحصيل المعرفة. وهذا ينطبق أيضاً على منع مقالات في الصحف أو المجلّات، أو حذف منشورات على فيسبوك أو تويتر (إكس)، أو أي منصة إعلام اجتماعي أُخرى. ذلك أنّ الحذف يشمل، غالباً، منشورات تكشف الأكاذيب المُعمّمة، أو تدين حروب إبادة تحظى بغطاء دولي.

اتّسعت دائرة الرقابة في عصر الذكاء الاصطناعي، وتجاوزت الحدود المحلّية للبلدان، وتعدّدت ألوانها وأشكالها، رغم أنّ جوهرها واحد، وصار العالم قرية حقّاً، وفي هذه القرية ثمّة دائرة للرقابة تقوم بالمراقبة والحذف المباشر لكلّ ما يخالف سياستها، أو ما تسمّيه "معايير جماعتها"، كما تقول هي نفسها بالحرف الواحد. وصار من الواضح أنّك، كي تستخدم هذه المنصّات الإعلامية، يجب أن تنتبه إلى ما تقوله، لأنّ القوى التي تتحكّم بها تمنع تسليط الضوء على حقائق معيّنة. ولقد شكا كثيرون في فيسبوك من تعرُّض منشوراتهم باللغة العربية للحذف بسبب مناصرتهم قضايا يعدّونها عادلة، وكشفهم حقائق تتعلّق بصراعات أو إبادات جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية.

صار الإعلام الرقمي مملكة يحكمها "الأخ الأكبر"، يحرس فيها المحتوى الذي يريده ويحذف كلّ ما يخالف "معايير الجماعة"؛ هذا المصطلح الغامض وحمّال الأوجه. إلّا أنّ موضوع الرقابة وحذف المنشورات ليس جديداً، بل تغيّرت الطريقة فحسب، ورافق هذا المنع الفكر المعارض في الأزمنة والأمكنة كلّها. وحذّر فلاسفة ومفكّرون كبار في الغرب من خطر الرقابة؛ من بينهم نيتشه الذي رأى أنها تُرسّخ ذهنية القطيع. أمّا الفيلسوفة جوديث بتلر فقد شدّدت على ضرورة الإصغاء للأصوات المهمّشة والمختلفة، ورأت أنّ الرقابة لا تُسكت أصوات المنشقّين فحسب، بل تخنق أيضاً إمكانية التغيير الاجتماعي. فالتحكّم بما يمكن قوله يقضي على إمكانية ولادة أفكار جديدة ومنظورات تتحدّى الوضع القائم.

يشمل المنع غالباً منشورات تكشف الأكاذيب أو تدين الإبادة

أمّا جون ستيوارت ميل، فرأى في كتابه "في الحرية" (1859) أنّ قمع أي رأي خطأ قاتل، لأنه يمنع ظهور الحقيقة، وعدّ الإصغاء إلى أصوات المنشقّين والمعارضين جوهرياً لنموّ الشخصية والمجتمع. وتتّفق جوديث بتلر مع ميل على أنّ الرقابة تقود إلى تجانس فكري وضياع للخطاب النقدي ما يؤذي الفرد والمجتمع. هذا التجانس، أو التماثل، هو ما عملت الرأسمالية على فرضه في العالم باعتباره ثقافة تروّج للاستهلاك، كما أكّد المفكر الراحل فريدريك جيمسون، الذي ركّز على تفكيك ثقافة الرأسمالية، وحلّل مكر الرقابة في سياقها. فالثقافة الحديثة، كما يرى، يمكن أن تعكس الأيديولوجيات الرأسمالية وتدعمها، الأمر الذي يقود إلى شكل من الرقابة يقيّد الخطاب النقدي.

يعرف معظم المثقّفين العرب طبيعة الرقابات العربية، وكان كثيرون منهم ضحايا لها. الرقابة في السياق العربي قائمة في أحد أشكالها على الانتهاك المادّي للمطبوعة عن طريق تمزيق صفحات بعينها، أو مصادرة الكتاب ومنعه، أو منع طباعته، أو حذف فقرات وصفحات منه قبل الطباعة، أو الاعتداء على حرية المؤلّف وقتله، أو زجّه في غياهب السجون. إلّا أنّ الرقابة تطوّرت أيضاً في سياقها العربي وصارت توجُّهاً يفرض طبيعة الأفكار والكتابات والآراء، فبدلاً من منع عدد من مجلّة أو تمزيقه، أو مصادرته، أو رفض نشر مقال، أو تحقيق مقلق للسلطات القائمة، صارت الرقابة من صلب عملية التحرير التي تقوم على الإقصاء والإبعاد والترويج. أمّا الرقابة على الرواية، فقد صارت جزءاً من عمليه التأليف؛ فالروائي الذي يطمح إلى جائزة عربية مهمّة، ليس عليه إلّا أن يتقيّد بشروطها، التي تضع قيوداً واضحة على لغة الرواية ومواضيعها، ربما قد تؤدّي في النهاية إلى إنتاج أدب أخلاقي ينسجم مع الموروث ومع القيم السائدة.

المسألة في أميركا على سبيل المثال تسير في اتجاه رقابة يفرضها شارع يزداد تديّناً وعنصرية وكراهية للآخر المختلف، ومن الأمثلة على الرقابة منع رواية الروائية الأميركية من أصل أفريقي توني موريسون "العين الأشدّ زرقة" في بعض المدارس الأميركية. نُشرت الرواية عام 1970، وتناولت موضوعات العِرق والهوية والصدمة والتحرّش الجنسي والمرض العقلي. ورأى بعض النقّاد أنّها غير مناسبة للقرّاء بسبب محتواها وتصويرها للعنف. انتقدت موريسون الرقابة قائلة إنّ سرديات العبيد كانت تخضع للرقابة، وكان الذوق العام يمنع الكتاب من التحدّث عن التفاصيل الأكثر إزعاجاً في تجاربهم، كما أنّ هذه السرديات أغفلت حياتهم الداخلية.

صارت الرقابة من صلب عملية التحرير التي تقوم على الإقصاء

وناقشت موريسون، في مقالتها "موقع الذاكرة"، أهمّية السرد القصصي، وضرورة مواجهة الحقائق المؤلمة في الأدب. فالمنع لا يُقيّد فقط المدخل إلى سرديات مهمّة، وفق تعبيرها، بل يجرّد الطلّاب أيضاً من فرصة الانخراط في مسائل اجتماعية معقّدة. إنّ اطلاع الطلّاب على الأصوات المختلفة والمتنوّعة يولّد فكراً نقدياً وتعاطفاً، وعن طريق قراءة كتب كهذه تتّسم بالتحدي يستطيعون مواجهة وقائع غير مريحة حول السلالة والهوية والمجتمع يمكن أن تقود إلى نقاشات أعمق وفهم أدقّ للعالم. وبالتالي يجب أن يكون التعليم فضاءً محروساً للنقد والحوار وتبادل الأفكار، وليس للمنع والرقابة.

مُنعت كتب كثيرة في الولايات المتّحدة الأميركية ثم سُمح بتوزيعها لاحقاً؛ مثل رواية "يوليسيس" لجيمس جويس، التي مُنعت لأسباب تتعلّق بتصويرها الوظائف الجسدية ولغتها الجنسية الصريحة، كما مُنعت رواية "موبي ديك" لهيرمان ميلفل بسبب مواضيعها المثيرة للجدل وتناولها للعرق والجنس والعنف والجوانب المظلمة في الطبيعة الإنسانية، ومُنعت روايات لهنري ميلر، وخاصّة "مدار السرطان" و"مدار الجدي" و"ربيع أسود" بسبب تصوير هذه الأعمال للجنس والحياة البوهيمية ولغتها المباشرة والصريحة.

وفي هذا العقد الأخير، مَنعت بعض المدارس الأميركية كتاباً لشاعر من سكّان أميركا الأصليّين، وهو شيرمان أليكسي، بعنوان "المفكّرة الحقيقية بالكامل لهندي أحمر يعمل بدوام جزئي"، لأسباب تتعلّق بلغته وموضوعاته وتصويره حياة السكان الأصليين. كما مَنعت مدارس كثيرة كتاب "ادفنوا قلبي في وونديد ني" لدي براون، وهو كتاب تاريخي ينتقد السياسات الرسمية الأميركية إزاء الشعوب الأصلية، ومُنعت أيضاً رواية ليزلي مارمون سيلكو "طقس" في المدارس، لأنّها تُصوّر ثقافة السكّان الأصليّين، كما حوربت كُتب لكتاب أميركيّين من أصل أفريقي ومُنعت في المدارس؛ مثل رواية "اللون الأرجواني" لأليس ووكر، ورواية "بيلفد" لتوني موريسون، ولم تفلت من الرقابة حتى مسرحيات شكسبير في ولاية فلوريدا.

تصاعدت بلاغة الحرب على الكتب في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب الذي دعم حظر كتب معيّنة في المدارس والمكتبات، وانتقد بشكل متكرّر كتباً رأى أنّها تُروّج لما دعاه أيديولوجيات "اليسار الراديكالي"، خاصّة تلك التي تتناول موضوعات العرق والجندر والجنسانية. وشجّعت إدارة ترامب مجالس المدارس المحلّية والجماعات على منع الكتب التي قيل إنّها غير ملائمة، إلّا أنّ القائمة اتّسعت لتشمل كتباً ذات طابع تنويري لم ترُق للتيار المحافظ.

وما من شكّ أنّ الرقابة على بعض المطبوعات في أميركا، وخاصّة تلك التي تُخاطب الأطفال غير الناضجين وتشوّشهم حيال أجسادهم وهوياتهم ضرورية، إلّا أنّ الرقابة التي تطاول النصوص الأدبية وكُتب ما يدعى بـ"اليسار الراديكالي" مرشّحة للدخول في طور جديد وخطير، وهذا يعتمد على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ينتظرها الجميع بترقّب وقلق.


* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة

المساهمون